عقب الضجة الكبيرة.. تصريحات عباس ضد “الهولوكوست الإسرائيليّ” تحت المجهر
ضجة كبيرة أثارتها تصريحات الرئيس الفلسطيني محمود عباس بعد أن وجّه اتهامات للكيان الإسرائيليّ بارتكاب “محارق هولوكوست” بحق الفلسطينيين، أثناء زيارته أخيرا إلى ألمانيا وخلال المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقده المستشار الألماني أولاف شولتس مع عباس في ديوان المستشارية الألمانيّة، أوضح صراحة أنّ العصابات الصهيونيّة اقترفت 50 مجزرة ضد الشعب الفلسطيني في 50 موقعاً، وكلها “هولوكست”، وتعني الكلمة إبادة جماعية وقعت خلال الحرب العالمية الثانية بين عامي 1939-1945 وقُتِل فيها حوالي ملايين اليهود الأوروبيين على يد ألمانيا النازية وحلفائها، فيما جرت عمليات القتل في جميع أنحاء ألمانيا النازية والمناطق المحتلة من قبل ألمانيا في أوروبا وكانت “الهولوكوست” مثالاً للإبادة الجماعية، التي تعني قتل مجموعات بشرية كبيرة فقط بسبب انتمائها لجنسية أو عرق أو دين معين، توابع تصريحات الرئيس الفلسطينيّ تلك مازالت مستمرة إلى اللحظة بين غضب إسرائيليّ وألمانيّ –رغم أنّ ما قاله أبو مازن هو جزء من الحقيقة فقط- وبين آخرين يرون ضرورة حل السلطة الفلسطينيّة وإعلان “الجهاد المسلح” على كامل التراب الفلسطينيّ المسلوب منذ عام 1948.
فخٌ إسرائيليّ
يتحدث مراقبون أنّ الصهاينة نجحوا من خلال عملاء أجهزة مخابراتهم في ألمانيا في استدراج الرئيس الفلسطيني إلى ما اعتبروه “فخاً” نُصب له في مؤتمره الصحفيّ مع المستشار الالماني اولاف شولز، وخاصة أنّ محمود عباس معروف بعفويته وعشقه للخطابة وعدم تحفظه في ردوده وعدم تدقيقه في اختياره لتشبيهاته أو في إطلاقه لأوصافه، وهو احتمال يصبح واردا بدرجة اكبر نسبيا مع التقدم في السن، وتراجع القدرة على ضبط الأعصاب على حد تعبيرهم، مؤكّدين أنّه كان بإمكانه أن يفلت من الفخ الماكر الذي جهزوه له وعرفوا كيف يثيرونه به، فيما لو انه أدان العنف بكل صوره وأشكاله.
وبالاستناد إلى أنّ الإسرائيليين يستغلون “الهولوكوست” بشكل كبير لجذب التعاطف نحوهم وتبرير جرائمهم منذ احتلال فلسطين عام 1948، اعتبر محللون أنّ الرئيس عباس كان بإمكانه أن يعيد الكرة إلى ملعب الألمان والقول: “هل قدمت اسرائيل اعتذاراً رسميا علنيا لنا أو للمجتمع الدولي عما فعلته وما تزال تفعله ضد الشعب الفلسطيني من مداهمات واقتحامات واعتقالات وتصفيات ومن تدمير بنايات سكنية علي رؤوس قاطنيها واعدامات ميدانية ومن اغلاق معابر واقامة معازل من جدران فاصلة وغيرها لتمزيق وحدة الاراضي الفلسطينية، حتى أكون أنا وحدي من تطالبونه الآن بتقديم اعتذار فلسطيني علني رسمي عما جرى في دورة العاب ميونيخ قبل خمسين عاما؟”.
وذلك على الرغم من أنّ أبو مازن استعمل المصطلح نفسه لإظهار حجم دمويّة “إسرائيل” بحق أبناء الشعب الفلسطينيّ وهي حقيقة لا يمكن لأحد إنكارها، حيث إنّ كيان الاحتلال اللقيط منذ ولادته غير الشرعية بني على مبدأ التطهير العرقيّ والتاريخيّ من خلال المجازر التي ارتكبتها عصابات الصهاينة ضد أصحاب الأرض ومقدساتهم إضافة إلى عمليات بناء المستوطنات على الأراضي الفلسطينية المحتلة كأدلة ثابتة وواضحة على ممارسات الصهيونيّة الاستعماريّة، ويوماً بعد آخر يتصاعد إجرام العدو الصهيونيّ الوحشيّ الذي لا يكف عن ارتكاب أشنع الجنايات بحق الفلسطينيين، والدليل اتهامه من قبل منظمات دوليّة معنية بحقوق الإنسان، بانتهاج سياسات تمييز عنصريّ واضطهاد في معاملة الفلسطينيين، والأقلية العربيّة في الأراضي الفلسطينيّة المُحتلة، مؤكّدين على أنّ تلك السياسات ترقى إلى حد الجرائم ضد الإنسانيّة، في أعقاب المنهج العنصريّ الذي يتبعه العدو بحق أصحاب الأرض، والأخبار التي تأتي بشكل مستمر من الأراضي الفلسطينيّة المحتلة خيرُ دليل على ذلك.
ويشير البعض إلى أنّ زيارة الرئيس الفلسطينيّ لألمانيا جاءت بعكس النتائج التي استهدفتها هذا بالضبط ما كان يخطط له الاسرائيليون ونجحوا فيه” حسب اعتقادهم، باعتبار أنّ مهمة عباس في المانيا انتهت بما هو “اسوأ من الفشل” برأيهم، وهو اتهامه بمعاداة السامية وبالتقليل من شأن المحرقة النازية ضد ملايين اليهود الأوروبيين، الشيء الذي فجر أزمة أخذت الصورة بعيدا عما يفعله الصهاينة في الأراضي الفلسطينية المحتلة وانتهاكاتهم الشنيعة والمتواصلة لحقوق الانسان في فلسطين، ليقع اللوم كله الآن على الضحية المغلوبة على أمرها، وليس علي الجاني او الجلاد الاسرائيلي بجبروته وهمجيته ودمويته.
أمرٌ طبيعيّ
في الوقت الذي انتقد البعض حتى من العرب تصريحات الرئيس الفلسطينيّ لأنّها تعكس حجم ضعف الحنكة السياسيّة في التصريحات، إلا أنّ آخرين أكّدوا أنّ الرئيس الفلسطينيّ بكل الأحول هو شخص غير مرغوب به في ألمانيا، ولو أنّه حمل بواخر نفطيّة لهم، باعتبار أنّ العلاقات بين برلين وتل أبيب توصف بالوثيقة والمستمرة، إن ظهور الرئيس الفلسطينيّ أوصل رسالة من الصعب إيصالها بهذه السهولة والدليل قول بعض المسؤولين الألمان: ” هو أسوأ خروج عن المسار كان من الممكن سماعه داخل دار المستشارية في أي وقت”، ورفضهم بشكل قاطع اتهام عباس للصهاينة بارتكاب “محرقة هولوكوست” بحق الفلسطينيين، وهذا طبيعيّ جداً لأنّ التحيز الألمانيّ الفاضح ليس بجديد أبداً وقد شاهدنا كيف ناصرت برلين تل أبيب مراراً في حربها على هذا الشعب، ناهيك عن محاربة المقاومة الفلسطينيّة هناك.
وإنّ الانزعاج الألمانيّ إلى هذا الحدث، يعني أنّ عباس استطاع بالفعل تسديد الضربة بمكان ضعف الخصم، في وقت تتخذ فيه “إسرائيل” ومناصروها تهمة “معاداة السامية” شماعة لمحاربة الفلسطينيين ومن يوالي قضيتهم المحقة في مختلف الميادين ويثقبون مسامعنا بمعلومات وترهات حول “الهولوكوست” ما أنزل بها من سلطان، على الرغم من ارتكاب الآلة العسكريّة الصهيونيّة وعصاباتها التي جُمعت من شتات الأرض أشنع الجرائم ضد الفلسطينيين وثرواتهم ومقدساتهم، وما زالوا إلى اليوم يرتكبون أقذر الجنايات الإرهابيّة في قتل وإعدام وتعذيب الأبرياء، ما يُظهر النفاق الألمانيّ في أبهى صوره مع عدو العرب والمسلمين والأحرار الأول، لمساعدة الإسرائيليين في إبادة هذا الشعب.
وإنّ عبارة“اسرائيل ارتكبت منذ عام 1947 حتى اليوم 50 مجزرة في 50 موقعا فلسطينيا” وأردف “50 مجزرة 50 هولوكوست”، حركت العالم بأسره ودفعت على الرغم من التشكيك بهذا الأمر أيّ أحد لا يصدق تلك الحقيقة للتأكد ولو ببحث بسيط على مواقع الانترنت التي لا تعد ولا تحصى ووثقت جرائم الإبادة التي تنفذها “إسرائيل”، وخاصة مع وجود أناس كثيرون يعتبرون السياسات الألمانيّة متحيزة للغاية وتصب في مصلحة الكيان المجرم، لدرجة أنّ إظهار أي دعم علنيّ لأي طرف في محور المقاومة يعتبر تُهمة كافية للطرد من العمل ومخالفة كبرى للقانون الألمانيّ، في ظل تعامٍ قذر من تلك الدولة التي تدعي الإنسانية والديمقراطية عن جرائم الكيان الصهيونيّ -السرطان الذي زُرع لفصل شرق الوطن العربيّ عن مغربه وتنفيذ المصالح الأمريكيّة والغربيّة-، دون رقيب أو عتيد بسبب فشل الحكومات العربيّة والدوليّة في محاسبته على جرائمه العنصريّة البشعة بحق أصحاب الأرض، والتي لم ينج منها الأطفال ولا الشيوخ ولا النساء ولا الأسرى ولا المرضى حتى.
دليل آخر، إنّ هذه الحادثة ليست الأولى من نوعها، فقد غضب سياسو ألمانيا مراراً من تصريحات مماثلة كان آخرها وصف الرئيس عباس السياسة الإسرائيلية بأنها “نظام أبارتايد (فصل عنصري)” وقال “إن تقويض حل الدولتين وتحويله إلى واقع جديد للدولة الواحدة بنظام الأبارتايد، لن يخدم الأمن والاستقرار في منطقتنا”، وهذا ما أغصب المدافعين عن الإرهاب الإسرائيليّ وحماة “العنصريّة” للتحرك ضدها، على الرغم من إقرار منظمات دولية معنية بحقوق الإنسان والتي تضم ما يزيد على 150 بلداً وإقليماً، أن الكيان الصهيوني هو “أبرتهايد” يرتكب جرائم ضد الإنسانية بموجب القانون الدوليّ من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط.
وإنّ التعاطي مع تصريحات عباس على هذا الشكل، طبيعيّ للغاية لأنّه يفضح الصهاينة بشكل أكبر على الساحة الدولية، وإنّ الغضب الألمانيّ يُعد شهادة قويّة ومحقّة على نضال ومعاناة الشعب الفلسطينيّ الرازح تحت الاحتلال العسكريّ الصهيونيّ وسياساته الاستعماريّة والقمعيّة بدعم من بعض الدول التي تتعامى عن الحقيقة ودماء الأبرياء، ويُعد شراكة واضحة في جرائم الصهاينة المتعددة بحق الشعب الفلسطينيّ، وخاصة في ظل رغبة الكيان العارمة في قمع الفلسطينيين والسيطرة عليهم، حيث إنّ العالم بأسره بدأ يعي جيداً حجم الجرائم الإسرائيليّة المنقطعة النظير والعنصريّة الغريبة الوصف بحق الأبرياء، لإنشاء أغلبية يهوديّة عبر عمليات القتل المباشر، والقيود على الحركة، والتطهير العرقيّ وسياسات التهجير، والتمييز المؤسسي، والحرمان من الجنسية والوطنية، كجزء من نظام ممنهج للهيمنة والفصل العنصريّ.
وإنّ الكيان الصهيونيّ لا يُخفي ذلك أساساً، بل يعترف بأنّه لايمكن بأيّ حال من الأحوال أن يتوقف عن إجرامه وقضمه لأراضي الفلسطينيين وتهجيرهم، وخيرُ دليل على ذلك ما يجري في فلسطين ونص إعلان الدولة المزعومة، والذي يدعي أنّ أرض فلسطين هي مهد الشعب اليهوديّ، وفيها تكونت شخصيته الروحيّة والدينيّة والسياسيّة، وهناك أقام دولة للمرة الأولى، وخلق قيماً حضاريّة ذات مغزى قوميّ وإنسانيّ جامع، وأعطى للعالم كتاب الكتب الخالد، ويزعم الإعلان أنّ اليهود نُفيوا عنوة من بلادهم، ويعتبرون أنّ الفلسطينيين هم ضيوف في “إسرائيل” وأنّ الجرائم التي يرتكبونها بحقهم بمثابة استعادة لحرياتهم السياسية فيها.
موقف رخيص
بين تأييد ومعارضة تصريحات الرئيس الفلسطينيّ، يجمع كثيرون من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي على أنّ تهمة عباس بالدعوة للعنف تزلف وموقف رخيص بلا حدود للعصابات الصهيونيّة من ثاني أكبر دولة قدمت لهم دعما ماليا وعينيا في العالم، بدلا من التحقيق في المجازر الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني وبدلا من العمل على إزالة الاحتلال العسكري العنصري لفلسطين المحتلة.
“الضحية هو المتهم، والقاتل هو القاضي”، توصيف لا شك بأنّه يعبر عمّا جرى مؤخراً، في بلد يعتبر نفسه أنه تخلص من إرث النازية بينما يدعم “النازيين الجدد” بكل قوة، حيث تتحدث المعلومات أنّ ألمانيا قدمت للكيان الصهيوني منذ اتفاق “بروكسل” عام 1952 وحتى الآن أكثر من 75 مليار دولار كتعويضات عامة وشخصية، فضلا عن البنية الأساسية والأسطول التجاريّ في خمسينيات القرن الماضي بدعوى التعويض عن 4 ملايين من اليهود الذين سقطوا ضحايا للنازية، لكنّها لم تعوض روسيا وشعوب الاتحاد السوفييتي السابق عن أكثر من 22 مليون مدنيّ ضحايا الاضطهاد النازيّ، فضلاً عن نحو 4 ملايين من الضحايا العسكريين، ولا بولندا التي سقط منها أكثر من 8 ملايين ضحية لذلك الاضطهاد، ولا يوغوسلافيا ولا اليونان، إلى آخر الشعوب التى تعرضت للاضطهاد النازيّ، وعلى الرغم من أن برلين لم تعوض هؤلاء الذين عانوا الأمرين من قهر وعنصرية النازية، إلا أنها استجابت لطلبات المنظمات الصهيونيّة بتقديم تعويضات لليهود عن الاضطهاد تعبيرا عن مصلحة الدولة الألمانية الغربية آنذاك فى تدعيم وجود الكيان الصهيوني باعتباره حلا للمشكلة اليهوديّة التي تفجرت فى أوروبا خلال القرن المنصرم، وفي ألمانيا بالذات منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، وكذلك لتدعيم الكيان الصهيوني كشرطيّ لحماية مصالح أميركا والغرب في المنطقة العربية.
وبذلك، فإن تقديم برلين للتعويضات كان يشكل استجابة ألمانيا المهزومة أو خضوعها لضغوط الحلفاء المنتصرين لتدفع عوضا عنهم احتياجات الكيان الصهيوني على شكل تعويضات، في وقت يشي فيه الفلسطينيون إلى أنّه في حال رغب الألمان بالتزلف للكيان الصهيوني للتكفير عن جرائم آبائهم وأجدادهم في عهد النازية فليفعلوا ذلك بعيدا عن تراب فلسطين وشعبها الذي يعيش كارثة سلب واحتلال وطنه وقتل وإبادة شعبه.
وبشكل دائم، يجب التذكير بأنّ الكوارث والجرائم التي يقوم بها الصهاينة في فلسطين، سببها الرئيسي هو أوروبا العنصرية التي اضطهدت اليهود وعملت على طردهم خارجها، وبحثت مع قادة الصهيونية العالمية عن وطن بديل لهم، وطرحت بدائل في الأرجنتين ومصر واستقر الأمر في النهاية لأسباب دينية وأسطورية على فلسطين لسوء حظ شعبها البطل، وصدر “وعد بلفور” وساعدت بريطانيا على هجرة اليهود من كل أصقاع الأرض إلى فلسطين، ودعمت الولايات المتحدة وأوروبا العصابات الصهيونية حتى تمكنت من اغتصاب فلسطين، ودعمت فرنسا البرنامج النووي الصهيوني انتقاما من مصر لمساعدتها ثورة الجزائر والثورات الإفريقية ضد الاحتلال، ما يعني أن “مأساة فلسطين” جذورها في عنصرية أوروبا وعلى رأسها ألمانيا، فماذا تتوقعون منهم أن يفعلوا مهما صرح أبو مازن!.
المصدر/ الوقت