ما الشيء الذي كشفته قضية اعتقال الصحفيّة لمى غوشة
في ظل مواصلة سياسة الاستيطان والقتل والاعتقال الإسرائيليّ بما يخالف القوانين الدوليّة والإنسانيّة، قررت محكمة تابعة للعدو، مؤخراً، الإفراج عن الصحفية الفلسطينية لمى غوشة، من مدينة القدس الشرقية، ضمن شروط مُقيِّدة لحين المحاكمة، حيث ماطلت السلطات الإسرائيليّة في عقد جلسة محاكمة الصحفيّة المذكورة، وفي خطوة غير معتادة، لم يصدر القاضي حكمه، على الرغم من تقديم الادعاء لائحة اتهام ضد الباحثة في المتحف الفلسطيني في بيرزيت، ووفقاً لمحاميها ناصر عودة، فقد قررت المحكمة المركزية الإفراج عن لمى بشروط مقيدة، أبرزها الحبس المنزليّ، والامتناع عن استعمال أجهزة الحاسوب والهواتف الذكيّة، إضافة إلى إيداع مبلغ مالي كضمانة لإطلاق سراحها.
اتهامات إسرائيليّة
تفيد بالمعلومات بأنّ إفراج المحكمة الإسرائيليّة عن الصحفيّة الفلسطينيّة هو مؤقت فقط لحين المحاكمة، التي لم تقرر المحكمة موعدها بعد، وقد عُرفت الصحفيّة بعبارة “بدي ولادي بدي ولادي” على وسائل الإعلام، وقد انهمرت دموع الشابة المقدسيّة لمى غوشة وهي تكرر هاتين الكلمتين، فارتفع صوتها أعلى من سقف محكمة العدو الإسرائيليّ، ولاقى تعاطفاً فلسطينيّاً كبيراً على وسائل التواصل الاجتماعيّ التي عجّت بالتنديد بسياسة الاحتلال العدوانيّة.
ووفقاً لقانون الاستعمار العسكريّ الإسرائيليّ لفلسطين، فإن من شروط الإفراج عدم تقديم النيابة العامة استئنافا ضد مثل هكذا قرارات، ولم تكن تريد الصحفية وطالبة الماجستير قسم الدراسات العليا بجامعة بيرزيت بالضفة الغربية، والتي اتهمتها النيابة التابعة للعدو، بمزاعم تتعلق بالتحريض والتماهي مع ما يطلق عليها الاحتلال “التنظيمات الإرهابية”، من خلال منشورات عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، سوى الاطمئنان إلى حال طفليها كرمل (5 سنوات) وقيس (3 سنوات)، فهي تركتهما مصدومَيْن حين اعتقلتها السلطات الإسرائيليّة أمام أعينهم الصغيرة في الرابع من سبتمبر/أيلول الجاري، وقد هاجم جنود إسرائيليون مدججون بالسلاح منزل العائلة في حي الشيخ جراح، وعاثوا فيه فساداً وصادروا حاسوب لمى وهاتفها، قبل أن يقتادوها، أمام طفليها وعائلتها، إلى تحقيق يقولون إنه لم ينته بعد.
ومنذ ذلك الحين يجري تمديد اعتقال الصحفيّة الفلسطينيّة، حيث مدّدت سلطات الاحتلال توقيف لمى غوشة للمرة الخامسة، لاستكمال المداولات، بعد تعرضها لتحقيق وُصف بـ “القاسي” بأساليب مهينة بينها التفتيش العاري والاستجواب لعشر ساعات متواصلة، بتهم التحريض ودعم منظمات إرهابيّة وتأييدها، وذلك لنشرها صورة الشهيد إبراهيم النابلسيّ، الذي قتلته “إسرائيل” مؤخراً بصواريخ «ماتادور» المحمولة على الكتف بعد حصار استمر ساعات، وقد شهد النابلسي مواجهات وأحداثا مؤثرة، بدأت باتصاله بوالدته طالبا منها الدعاء له، ثم بتسجيل صوتي قال فيه: «أنا هاستشهد اليوم.. أنا بحبك يا أمي.. وحافظوا على الوطن بعدي.. أنا محاصر ورايح استشهد.. وأوصيكم يا شباب ما حد يترك البارودة»، حيث تفاخر قادة الكيان الغاصب بقتله بعد أن قاد العملية قائد لواء شمرون روي زويغ، الذي كان أصيب برصاص النابلسي نفسه خلال عملية إطلاق نار نفذها على منطقة قبر يوسف، فيما نعته الرئاسة الفلسطينية و«حركة فتح» وباقي الفصائل الفلسطينية، وشيعه أبناء فلسطين في جنازة مهيبة تقدمتها والدته.
وفي الوقت الذي يمارس فيه العدو الصهيونيّ سياسة “القتل البطيء” مع الأسرى ويماطل بشكل سافر في حلحلة تلك القضيّة، وبالتحديد في الفترة الأخيرة التي كشفت اللثام عن جبروت العصابات الصهيونيّة على كل المستويات، نتيجة تعنت الحكومة الإسرائيليّة وعدم رغبتها في الاتفاق لحل هذا الملف الشائك، تُتهم غوشة بالذات بقضايا الأسرى، والتي تقدّم برنامجاً مكرّساً حسب وسائل إعلام للتعريف بهم وبصمودهم وبطولاتهم بعنوان “بروفايل أسير”، حيث عُزلت في سجن “هشارون” في ظروف قاسية وفق ما قالت، قبل أن يذهب بها سجّانوها بعيداً عن أهلها والصحفيين الذين توافدوا إلى محكمة صلح القدس، رفضاً لاعتقال زميلتهم قبل أيام.
والدليل على عدوانيّة السلطات التابعة للعدو التي ترغب من الفلسطينيين التصفيق لها على جرائم حربها واستعمارها ودويّتها المفرطة، هو ما قالته حول أنّ التحقيق الذي أجراه مكتب المدعي العام أفاد بأن المشتبه بها أي الصحفيّة الفلسطينيّة اعتادت على إجراء مقابلات مع معتقلين فلسطينيين مفرج عنهم، ونشر هذه المنشورات على مواقع التواصل الاجتماعيّ، كما وجّهت تل أبيب الاتهام لها بنشر صور لنشطاء فلسطينيين، استهدفتهم قوات العدو، في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر.
اعتداء خطير
لا يخفى على أحد في العالم، أنّ سلطات الاحتلال الصهيوني تخوض حربًا شعواء على وسائل الإعلام التي تكشف عدوانها المتصاعد، وإنّ قضية الصحفية غوشة وغيرها الكثير كشفت عن الوجه الحقيقي لانتهاكات الاحتلال الغاصب بحق الصحفيين، وقد احتل كيان الاحتلال الإسرائيلي المرتبة الأولى عالميًا في قتل الصحفيين وانتهاك حقوقهم وملاحقتهم، وفقًا لدراسة تفصيلية نشرتها منظمة (التيارات المضادة Countercurrents) في الولايات المتحدة، وضمن هذا الترتيب يتربع الكيان في المرتبة الأولى على سلم قتل الصحفيين بفارق كبير عن دول عالمية أخرى تشهد حروبًا متواصلة أو تنشط فيها عصابات المخدرات والإجرام.
وتفيد الدراسة بأن قتل الصحفيين على يد نظام الفصل العنصريّ الصهيونيّ في فلسطين المحتلة يتصدر العالم، وهو أكبر بنسبة 73.4 مرة مما هو عليه في العالم أجمع، وذلك على أساس متوسط عدد الصحفيين الذين قتلوا لكل 10 ملايين من السكان سنويًا، فمنذ العام 2000، قتل الاحتلال الإسرائيلي 55 صحفيًا فلسطينيًا خلال قيامهم بعملهم الصحفي، آخرهم الصحفية المعروفة غفران وراسنة التي استشهدت في الأول من حزيران الفائت إثر إصابتها برصاص أطلقه جنود الاحتلال قرب مخيم العروب شمال الخليل، والصحفية التي حركت العالم شيرين أبو عاقلة، التي استشهدت برصاص الاحتلال في 11 أيار المنصرم أثناء تغطيتها الصحفية في مخيم جنين في الضفة الغربية.
وبالعودة إلى قضية الصحفية غوش، تنفي عائلتها الاتهامات الموجهة إلى ابنتها، وتؤكّد أنّها “اعتداء على حرية الرأي والتعبير”، ويشير محامي لمى، وفقاً لوسائل إعلام عربيّة أنّ الادعاء قدّم لائحة فيها أحد عشر بنداً حول التحريض والتماهي مع منظمات “إرهابية”، حسب تعريف القانون التابع للعدو، وأوضح أن أقصى عقوبة لتهمة التحريض تصل إلى خمس سنوات سجن، ويفترض أن يصدر القاضي حكمه قريبا، فإما أن يجد في غوشة تهديداً لأمن الكيان ما يستوجب سجنها، أو يتم إطلاق سراحها بشروط، ربما تكون مشددة.
ويضيف محامي الصحفيّة الفلسطينيّة، إن لمى تنفي الاتهامات الموجّهة إليها بشكل قاطع، وهنا يجب التذكير بأنّ اهتمامها المهني والشخصي بقضية الأسرى هو الذي دفع الحقد الإسرائيليّ باتجاهها، على الرغم من أنّ ذلك ليس مصادفة، فهي ابنة القدس ومعاناة أهلها اليومية في مواجهة الاحتلال، إضافة إلى كونها زوجة أسير هو ياسين صبيح، ولمى وضعت طفلتها الأولى “كرمل” خلال واحد من اعتقالات ياسين المتكررة لدى العدو، حيث يتبادل الزوجان دوري الأسر والانتظار، تتكرر أسئلة طفليهما عن غياب أحد الأبوين.
هجمة شرسة
في الوقت الذي تستمر فيه العاصمة الفلسطينيّة القدس في تقديم أبنائها وبناتها أسرى وأسيرات دفاعاً عن حقهم في العيش بكرامة في مدينتهم المحتلة، يتفق الجميع على أنّ الصحافة الفلسطينية مستهدفة، فاعتقال لمى يأتي في عام صعب على الصحفيين الفلسطينيين، فمنذ أشهر تتصاعد الهجمة الشرسة للإسرائيليين ضد الصحفيين، فيما يشير البعض إلى أنّ الحديث عن استهداف شيء مُحدد دون آخر في فلسطين المحتلة غير دقيق أبداً، فالاحتلال العنصريّ الهمجيّ يستهدف الكل الفلسطيني، صحفياً أو طالباً أو مريضاً أو طفلاً، وتكفي أن تكون فلسطينيّاً لتموت برصاصة صهيونيّة.
ومع تصاعد إجرام العدو الكيان الصهيونيّ الوحشيّ بحق الشعب الفلسطينيّ، وانتهاجه سياسات تمييز عنصريّ واضطهاد في معاملته، يخشى الإسرائيليون من كل من يُقرب من مساءلة تل أبيب على جرائمها المتعددة بحق الشعب الفلسطينيّ، ويكممون الأفواه لمنع تذكير الدول بالتزاماتها القانونيّة بموجب القانون الدوليّ، للجم خروقات الكيان المُعتدي، من خلال التستر على الجنايات الشنيعة والجرائم ضد الإنسانيّة، في أعقاب المنهج الإباديّ الذي يتبعه العدو بحق أصحاب الأرض، والأخبار التي تأتي من الأراضي الفلسطينيّة المحتلة خيرُ دليل على ذلك.
ولا تكف الآلة العسكريّة للعدو عن استهداف وقتل وتهجير الفلسطينيين ونهب أراضيهم، كما أنّ قوات العدو في فلسطين تعترف بأنّها ترغب بالهيمنة على الفلسطينيين بالسيطرة على الأرض والتركيبة السكانيّة لمصلحة الإسرائيليين اليهود، وحتى الصهاينة أنفسهم لا ينكرون ذلك، لأنّهم أسّسوا كيانهم الإرهابيّ وفق منهج “القبضة الحديديّة” وهم يؤكّدون ذلك بكل فخر في أيّ مكان ومع كل مناسبة، فمنذ يوم 14 مايو/ أيار عام 1948، عندما صُنع هذا الكيان وحصل على اعتراف الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتيّ بعد دقائق من إعلانه، وحتى اليوم، لم تتغير سياسة قادته قيد أُنملة، بل زادت ظلماً وعدواناً حتى وصلت إلى قمة الإجرام والإرهاب، بعد أن فرضه المستعمرون على العالم وعلى المنطقة، والتاريخ أكبر شاهد على الوحشيّة الصهيونيّة في فلسطين والمنطقة.
وإنّ الأخبار الأخيرة تُعد شهادة واضحة على نضال ومعاناة الشعب الفلسطينيّ الرازح تحت الاحتلال العسكريّ الصهيونيّ وسياساته الاستعماريّة والقمعيّة، ما يُظهر حقيقة بعض الأطراف الداعمة للعصابات الصهيونيّة وتساندها بمختلف الأدوات ضد هذا الشعب الذي يطرد من أرضه بشتى الوسائل وبمختلف الأساليب والأسلحة، كما تكشف حقيقة “إسرائيل” الدمويّة التي تتستر على جناياتها من خلال وسائل الإعلام العالميّة التي يدير اليهود الكثير منها، فيما تحارب تل أبيب بكامل قوتها المقاطعة التي تشنّها منظمات معروفة لمقاضاة وكشف وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات ومنع إضفاء الشرعية على سرطانها.
بالاستناد إلى كل ما ذُكر، إنّ ما تمر فيه الصحفيّة الفلسطينيّة اليوم مر فيه كثيرون من أهل القدس، ولعلّ فيما اختبرته لمى تكثيفاً لأكثر من وجه من وجوه معاناة المقدسيين، فهي واحدة من أربع عشرة أسيرة مقدسية منهن أمهات، كالأسيرة الجريحة إسراء جعابيص وأماني حشيم، وهي صحفية من بين سبعة عشر صحافياً يحتجزهم الاحتلال في سجونه، بينهم صبيتان إضافة إليها، هما: بشرى الطويل وطالبة الإعلام دينا جرادات، وإن “إسرائيل” احتلال ووجودها مناقض لوجود هذا الشعب، وبالتالي كل فلسطيني مستهدف، سواء في القدس أو الضفة الغربية أو حتى الأرض المحتلة عام 1948، ولأنّ قوة الصحافة وقدرتها على إعلاء صوت الناس تهز المحتلين باعتبارها تكشف قبح جرائمهم، فيهلع المحتل إلى إسكات الصحفيين عبر الآلة العسكريّة ولو كلفه ذلك طحن عظامهم.
المصدر/ الوقت