العمليات الفلسطينية الفردية تخلق رعبا داخل الاوساط الصهيونية
أعادت العمليات الفردية في تل أبيب وبئر السبع والخضيرة وأريئيل وإلعاد وما أحدثته من خسائر بشرية كبيرة نسبياً، فضلاً عن هبّة الدفاع عن المسجد الأقصى في مواجهة الاقتحامات الاستفزازية التي تنظمها جماعات الهيكل العنصرية بحماية سلطات الاحتلال، الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي إلى الصدارة بعد المحاولات الإسرائيلية المحمومة لتهميشه. وكعادتها، حاولت ماكينات الدعاية الإسرائيلية عزو هذه الظاهرة إلى عدة عوامل ليس بينها العامل المفجر، وهو سياسة الأبارتهايد الاستعماري البشع، متجاهلة العلاقة بين هذه العمليات والجرائم والانتهاكات الإسرائيلية المتعددة في أنحاء الضفة الغربية ومدينة القدس، ومتجاهلة أيضاً اعتداءات المستوطنين ونهبهم للأرض والموارد، واعتداءهم على الرموز الوطنية والدينية، وفي طليعتها المسجد الأقصى المبارك.
ولقد استُخدم في العمليات التي شهدتها فلسطين في الأشهر الأربعة الأولى من سنة 2022 حتى مطلع أيار / مايو، والبالغ عددها ثماني عمليات، السلاح الناري والسلاح الأبيض، وكانت حصيلتها مقتل 17 إسرائيلياً وأجنبيين، وعشرات الجرحى، واستشهاد اثنين من المنفذين، واعتقال أربعة بينهم منفذا عملية إلعاد اللذان كانا ما زالا طليقَين. ولا يمكن عزل العمليات التي يقوم بها الأفراد، عن المقاومة التي يخوضها الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الكولونيالي ونظام الأبارتهايد الإسرائيلي. ويرى كثيرون أن من الأسباب التي تدفع الشبان الفلسطينيين إلى مثل هذه العمليات، هي الاعتداءات الإسرائيلية الشديدة العنف على الشعب الفلسطيني، والتي يقوم بها الاحتلال من دون حسيب أو رقيب، مُوقِعين أعداداً كبيرة من الشهداء الفلسطينيين، ولذلك يسعى المقاومون الفلسطينيون للإيقاع بأكبر قدر من الخسائر في صفوف الإسرائيليين.
كما أن انعدام أفق الحل السياسي، والإحباط المتزايد لدى كثير من أفراد الشعب الفلسطيني جرّاء عدم قدرة السلطة الوطنية الفلسطينية على توفير حماية لهم، ساعدا في رفع جهوزية هذه الفئة من الشبان لشنّ عمليات مسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي الجاثم على صدور الجميع. وكذلك فإن عجز مختلف فصائل المقاومة الفلسطينية، في التصدي الفاعل للاستباحة الإسرائيلية، ساهم في دفع الشبان إلى تنفيذ عمليات تستهدف إسرائيليين في العمق. فعلى الرغم من وضع حركتَي “حماس” والجهاد الإسلامي خطوطاً حمراء، فإنهما لم تنفذا تهديداتهما واكتفتا بادّعاء أن كل تراجع إسرائيلي إنما سببه تهديداتهما. وواقع الحال أنهما تخشيان من تبعات أي عدوان جديد على قطاع غزة المحاصر والمنهك، ولا سيما بعد اعتداءات إسرائيل التدميرية منذ سنة 2014 حتى سنة 2021، بينما يخشى سائر الفصائل من الرد على الاعتداءات الإسرائيلية خوفاً على مصالحه التي نمت بعد اتفاق أوسلو.
ومن أهم ما يميز منفذي هذه العمليات، هو التضحية بالذات، فكونهم يدركون أنهم لن يعودوا أحياء، يجعلهم يتطلعون إلى إيقاع أكبر قدر من الخسائر في صفوف الإسرائيليين، وزرع الخوف فيهم، في محاولة منهم لدفع إسرائيل إلى أن تحسب حساباً قبل أن تنفذ أي عملية عسكرية في المناطق المحتلة. أمّا اختيار قلب المدن الإسرائيلية مثل تل أبيب وبئر السبع، فيُعتبر ميزة إضافية، لأن المنفذين يدركون أن تنفيذ العمليات بالشكل والطريقة التي جرت فيها، لا يمكن أن يتم في مستعمرات الضفة الغربية التي تحولت إلى قواعد عسكرية، والتي يشارك سكانها في التنكيل والاعتداءات اليومية في حقّ الفلسطينيين ومصادرة أراضيهم، بمؤازرة من جيش الاحتلال الذي نشر الأبراج والحواجز والبوابات الإلكترونية، بما في ذلك تصفيح أكثر من 15,000 سيارة للمشاركة في قمع الفلسطينيين.
ويرى محللون أن الهجمات الفردية، التي يشنها فلسطينيون، بمعزل عن المُنظمات التقليدية، تُشكل تحديا لإسرائيل، من حيث صعوبة التنبؤ بزمانها ومكانها وشخوصها، وكذلك سُبل الرد عليها، وهو ما يمسّ بشكل مباشر بما يعرف بـ”قوة الردع” الإسرائيلية. ومن هنا، يعتقد المحللون أن أي عمل عسكري إسرائيلي واسع، ردا على هذه الهجمات، لن يأتي بنتيجة فورية، نظرا لعدم وجود ارتباط واضح، بين المنفذين والفصائل الفلسطينية. ومؤخرا، شن فلسطينيون، هجمات على إسرائيل، أسفرت عن مقتل 13 شخصا، كان آخرها مساء أمس الخميس، حيث أطلق فلسطيني النار في مدينة تل أبيب، ما أسفر عن مقتل إسرائيليَين اثنين، وإصابة 9 آخرين.
وقالت قناة “كان” الإسرائيلية الرسمية، نقلا عن جهاز الأمن العام “الشاباك” إن منفذ الهجوم “ليس لديه سوابق أمنية كما أنه لا ينتمي إلى أي تنظيم”. وسبق هجوم مساء الخميس، 3 عمليات، آخرها كان بتاريخ 29 مارس/آذار الماضي، في مدينة بني براك، وأدى إلى مقتل 5 أشخاص، وقبلها أطلق فلسطينيان النار بمدينة الخضيرة (شمال) وقتلا شخصين؛ وسبقها هجوم شنه فلسطيني في مدينة بئر السبع وأدى إلى مقتل 4 إسرائيليين. وتطرق خبراء إسرائيليون، في مقالات صحفية، إلى موجة العمليات الأخيرة، مشيرين إلى صعوبة التصدي لها. وفي هذا الصدد، يقول يوسي يهوشع، المحلل في صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية، في مقال نشره الأسبوع الماضي: “يجب الاعتراف: مثل هذه الموجة من الإرهاب ليس لها حل سحري”.
وأضاف يهوشع: “لا يوجد عنوان يمكن مهاجمته بقوة، مثل غزة أو مخيمات اللاجئين في الضفة الغربية، من الصعب جدًا جني الثمن؛ لا توجد عوامل ضغط على العدو، لأنه من الصعب تحديده”. أما عاموس هرئيل، الكاتب في صحيفة “هآرتس”، فكتب مقارنا بين العمليات التي كانت تستهدف إسرائيل خلال انتفاضة الأقصى التي انطلقت عام 2000 وقادت إلى اجتياح الضفة، والعمليات التي تنفذ اليوم. من جهته، يقول الصحفي المختص بالشأن الإسرائيلي، وديع عواودة، إن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تقر وتعترف بـ “معضلة” العمليات الفردية، سواء تلك التي وقعت خلال الأيام الماضية أو موجة الطعن عام 2015. وأضاف في حوار خاص له: “القلق الإسرائيلي نابع من صعوبة رصد هذه العمليات، وتوقعها، لاتخاذ إجراءات استباقية”.
ويقول إن إسرائيل “لا تستطيع التعرف على منفذي هذا النوع من العمليات من خلال مصادرها البشرية، أو عن طريق المتابعات التكنولوجية، فالمنفذ نفسه قد لا يكون متأكدا من مكان وزمان تنفيذ عمليته”. ويشير الصحفي عواودة إلى أن تكرار هذا النوع من العمليات “يشكل تحديا أمنيا كبيرا لإسرائيل، لأنها تجعل الدولة تبدو فاقدة للردع”. أما الخبير العسكري، اللواء المتقاعد يوسف الشرقاوي، فيرجّح أن يزداد تحدي العلميات الفردية أمام إسرائيل مستقبلا. كما استبعد أن تستطيع إسرائيل احتواءها “فهي ليست موسمية أو ترتبط بأحداث بعينها، بل هي عملية مستمرة باستمرار الاحتلال”. في حين رأى الكاتب الصحفي نجيب فرّاج، من جانبه، أن العمليات الفردية “تعكس فشلا استخباراتيا، نظرا لصعوبة التنبؤ بنوايا الفرد، وبالتالي صعوبة توقيفها”. ورجّح فراج استمرار هذا النوع من العمليات “ما دام الصراع قائما ومفتوحا، وما دامت إسرائيل تتنكر لحقوق الفلسطينيين”. وتابع إن رد الفعل الإسرائيلي في العمليات الفردية ينحصر في استهداف المنفذ وعائلته أو أصدقائه على أبعد تقدير، دون مواجهة التنظيمات السياسية أو خلايا عسكرية، وهو ما يجعل منعها شبه مستحيل.
لقد أوقعت العمليات الفردية الأخيرة خسائر بشرية ومعنوية قياساً بالحسابات الإسرائيلية، ورفعت من نسب الخوف في صفوف الإسرائيليين الذين أصبحوا غير آمنين في المدن المركزية، وصار التفوق الأمني والعسكري الهائل غير قادر على إزالة التهديد الذي يقوّض أمن الإسرائيليين، والذي تسببه مبادرات الشبان الفردية، الأمر الذي أحرج الحكومة والمؤسسة الأمنية على حد سواء، واللتين تتجاهلان بالكامل ضرورة إيجاد حل للصراع مع الشعب الفلسطيني ينهي الاحتلال والسيطرة على شعب، ويوقف جرائم المستوطنين والفاشية الدينية اليهودية.
لم تستخلص الحكومة الإسرائيلية الدرس، وها هي تمعن في مواصلة البحث عن حل أمني لا يؤدي سوى إلى إنتاج العمليات الفردية وجميع أنواع المقاومة ضد الاحتلال الاستيطاني ونظام الأبارتهايد. علاوة على ذلك، لا تحظى العمليات الفردية، ولا المقاومة المسلحة، بدعم قيادة السلطة الفلسطينية التي ما زالت متمسكة بعملية سياسية مرفوضة جملة وتفصيلاً من حكومة بينت وقبلها حكومة نتنياهو، علماً بأن الوسطاء والاتصالات جميعاً، ولا سيما الأميركية التي جرت في الآونة الأخيرة مع القيادة الرسمية، لم يتطرقوا إلى مسار سياسي، وإنما انصبت جهودهم فقط على ضرورة وقف العمليات المسلحة ضد الأهداف الإسرائيلية، في مقابل ضريبة كلامية عن حل الدولتين.
ولم تختلف موقف الفصائل الفلسطينية الأُخرى عن الموقف الرسمي، سوى بضريبة كلامية وتصريحات نارية يركب أصحابها موجة العمليات الفردية، للتغطية على العجز، أو جرّاء الخوف من أن يكون الثمن في قطاع غزة، أو لأن تلك الفصائل غير قادرة على اللحاق بركب العمليات، أو خوفاً من سحب بعض الامتيازات التي تتمتع بها نتيجة استمرار الوضع القائم.
المصدر/ الوقت