تركيا و”دبلوماسية اللعبة المزدوجة” في التوتر بين الشرق والغرب
فيما أعلنت جميع الدول تقريبًا بعد اندلاع حرب أوكرانيا الحياد أو الدعم لأحد طرفي النزاع، لكن في غضون ذلك، لم تکن لتركيا سياسة واحدة في التعامل مع التطورات العالمية الأخيرة، بل اعتمدت نهجًا مزدوجًا.
من أجل تجنب الغضب الروسي، عارضت تركيا العقوبات الغربية ضد هذا البلد، لكن من ناحية أخرى، ومن أجل إرضاء الغربيين، فقد عارضت الهجمات الروسية، وببيع طائراتها بدون طيار للحكومة الأوكرانية، تجنبت انتقادات السلطات الأمريكية والأوروبية.
وبينما توقع الغربيون أن تنحاز تركيا كعضو في منظمة حلف شمال الأطلسي(الناتو)، التي تصطفّ الآن بالكامل ضد روسيا، إلى جانب حلفائها، لكن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اختار مسارًا مختلفًا، بل حاول ابتزاز حلفائه في الناتو أيضًا؛ ومن أجل الموافقة على عضوية فنلندا والسويد في الناتو، طالب بتنازلات أخرى منهم، بما في ذلك عدم دعم جماعة “حزب العمال الكردستاني” الإرهابية في أراضي هذين البلدين،کما حاول الحصول على تنازلات من أمريكا في بعض التطورات في المنطقة، ومنها سوريا.
واضطر مسؤولو واشنطن، الذين كانوا بحاجة إلى دعم تركيا في الناتو، إلى سحب بعض مطالبهم من أجل القضاء على أعذار أنقرة لعدم معارضة عضوية أعضاء جدد في الناتو.
وحتى في بداية الحرب، حاولت تركيا إظهار نفسها على أنها محايدة من خلال التوسط بين كييف وموسكو، لكن أردوغان بدأ هذا العرض السياسي من أجل الحصول على تنازلات من طرفي النزاع.
البرنامج المتضارب لشراء مقاتلات من خصمين
بينما علقت الولايات المتحدة بيع أي طائرات مقاتلة إلى تركيا لأسباب سياسية، ولکن يبدو أنه حصلت انفراجة في هذا المجال هذه الأيام، وكما قال أردوغان على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، فقد تم التوصل إلى اتفاقيات لشراء مقاتلات F-16، والتي سيتم الانتهاء منها في المستقبل القريب.
وعلى الرغم من أن مسؤولي البيت الأبيض والبنتاغون لم يعلقوا على هذا الأمر، ولکن من المحتمل أن توافق الولايات المتحدة على هذا الطلب في الوضع الحالي.
لكن النقطة المثيرة للاهتمام في القضية هي أن تركيا، أثناء محاولتها شراء مقاتلات F-16، تتطلع أيضًا إلى شراء الجيل الجديد من المقاتلات الروسية. وفي الأيام الأخيرة، قال رئيس وكالة الصناعة الدفاعية التركية إن هذا البلد قد يفكر في شراء طائرات مقاتلة روسية من طراز سوخوي 35 إذا فشل عقد شراء مقاتلات F-16 الأمريكية.
هذا في حين أنه في عام 2019، علقت الولايات المتحدة مشاركة تركيا في برنامج مقاتلات F-35 بسبب شراء أنظمة الدفاع الجوي S-400 من روسيا، ثم استبعدت أنقرة تمامًا من هذا البرنامج.
في عام 2020، قال الرئيس التركي إن أمريكا عرضت على أنقرة شراء الجيل الرابع من طائرات F-16 بدلاً من الجيل الخامس من F-35، لكن هذه الخطة لم تنفذ بعد والأمريكيون يماطلون في هذا الصدد.
وفيما قال مسؤولو البيت الأبيض مرارًا إنهم سيعلقون أي تعاون عسكري مع تركيا إذا تعاونت مع روسيا واشترت أسلحةً من هذا البلد، لكن أردوغان لا يزال يحاول اللعب في ملعب الخصمين القويين، والحصول على تنازلات من كلا الجانبين.
تركيا، التي تمتلك ثاني أقوى جيش للناتو بعد الولايات المتحدة، وفقًا لسياسات هذا الحلف العسكري، يجب ألا تكون مجهزةً بأسلحة روسية، لأن أساس هذا التحالف تم تشكيله للتعامل مع تهديدات موسكو. والآن، بسبب الأزمة الأوكرانية، حيث بات قطبا الشرق والغرب على خلاف مع بعضهما البعض، فإن رغبة أنقرة في شراء طائرات مقاتلة روسية متقدمة تهدد بشكل خطير الوحدة والتقارب في حلف شمال الأطلسي، أكثر من کونها مفيدةً للغرب.
لذلك، ليس لدى أردوغان سياسة واضحة وموحدة في هذا الشأن أيضًا، وليس واضحًا في أي جبهة وضع بلاده؛ وبعبارة أخرى، فإن السلطات التركية والشعب التركي مرتبكون بشأن الاتجاه الذي يتجهون إليه في النهاية.
في السنوات الأخيرة، حاولت تركيا، بصفتها عضوًا في الناتو، الميل نحو الشرق، ولهذا السبب، ونتيجة الخلافات الجادة مع أعضاء الناتو الآخرين، فقد دفعت هذا التحالف العسكري نحو المزيد من الاختلاف.
لقد أظهرت سياسة تركيا المزدوجة في أزمة أوكرانيا، أن أنقرة تناور بمهارة وتنتفع من الجميع. إذ تحاول الدبلوماسية التركية بشأن علاقاتها مع الشرق والغرب، استغلال جانبي القضية لصالحها.
العضوية في منظمة شنغهاي ضد حلف شمال الأطلسي
تركيا التي كانت عضوًا في الناتو منذ حوالي خمسة عقود وقبلت أحكامه وقواعده، لكنها ما زالت تتجاهل سياساتها وتتبع أسلوبها الخاص.
وعلى الرغم من وجود قيود على أعضاء الناتو في الانضمام إلى المنظمات الإقليمية التي لديها نهج معاد للغرب، ولکن أخلّ أردوغان بجميع المعادلات وبدأ هذه الأيام في عدم الاتساق مع حلفائه في الناتو.
وفي هذا الصدد، في الاجتماع الأخير لمنظمة شنغهاي للتعاون الذي عقد في مدينة سمرقند في أوزبكستان، حضر أردوغان الاجتماع وأعلن لأول مرة استعداده لانضمام تركيا إلى هذه المنظمة الإقليمية التي تقودها الصين وروسيا.
هذا الموقف كان له إشارات سلبية بالنسبة للغرب في الوضع الراهن، ولهذا السبب أعرب المسؤولون الأمريكيون والأوروبيون على الفور عن قلقهم من هذه القضية. فبعد لقائه مع أردوغان على هامش الجمعية العامة، زعم المستشار الألماني أولاف شولتز أن منظمة شنغهاي ليست منظمةً ستقدم مساعدةً مهمةً لتعايش عالمي جيد.
کما يأتي توجُّه تركيا نحو شنغهاي ودول الكتلة الشرقية في حين أن هذا البلد عضو في الناتو، ويحاول أن يصبح عضوًا في الاتحاد الأوروبي منذ عدة سنوات. وفي الواقع، تُعتبر رغبة أنقرة الآن في الانضمام إلى حلف شنغهاي، شكلاً من أشكال إدارة الظهر لسياسات تركيا أوروبية المنحی.
وبما أن قادة الاتحاد الأوروبي قد أبقوا تركيا خلف أبواب هذا الاتحاد لأكثر من عقدين، ولم يسمحوا لها بالانضمام لأسباب سياسية وحقوقية ويحاولون ابتزاز هذا البلد، لذلك يستغل أردوغان الفرصة ويحاول أن يُفهم الأوروبيين أنه ليس مستعدًا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بأي ثمن، لأن هناك خيارات أخرى جذابة في الشرق تجذب تركيا إلى مدارها بأقل تكلفة وفي أقصر وقت.
من ناحية أخرى، دخلت الصين وروسيا، بصفتهما قائدا منظمة شنغهاي، في توتر شديد مع الغرب في الأشهر الأخيرة، وانضمام تركيا إلى مثل هذه المنظمة هو عملياً وقوف ضد خطط واشنطن العالمية، التي تحاول عزل موسكو و بكين.
إذا أصبحت تركيا عضوًا في شنغهاي، فستصبح أول عضو في الناتو ينضم إلى هذه الكتلة الشرقية. کما أن العضوية الكاملة في منظمة شنغهاي للتعاون، ستمنح أردوغان أداةً جديدةً ضد الغرب، وآفاقًا لعلاقات اقتصادية أقوى.
حكومة أردوغان التي تواجه أزمةً اقتصاديةً منذ ثلاث سنوات، وأدى التضخم الجامح في هذا البلد إلى استياء من الحكومة، التي تحاول تحقيق الاستقرار في الاقتصاد التركي المضطرب قبل انتخابات العام المقبل.
وبالنظر إلی أن الانتخابات الرئاسية التركية ستجرى خلال سبعة أشهر، بالإعلان عن استعداده للانضمام إلى منظمة شنغهاي، يحاول أردوغان استقطاب الرأي الإيجابي للصين وروسيا والحصول على امتيازات بسبب توتر هذه القوى مع الغرب لإنقاذ اقتصاد حكومته المتعثر.
ولذلك، يحاول أردوغان، الذي يتعرض لضغوط شديدة من المعارضة المحلية بسبب سياسته الخارجية الفاقدة للتخطيط، لعب دور رئيسي في التنافس بين الغرب والشرق من أجل كسب الرأي العام المحلي، والاحتفاظ بعرشه لأربع سنوات أخرى.
من ناحية أخرى، فيما تواصل تركيا علاقاتها الاقتصادية مع روسيا، تحاول من جهة أخرى تقليص أزمة الطاقة في القارة الأوروبية الناجمة عن انقطاع النفط والغاز الروسي، عن طريق نقل موارد الغاز من الأراضي المحتلة إلى الأراضي الأوروبية، وتوفير جزء من احتياجات حلفائها.
الأمر المؤكد أن السلطات التركية توصلت إلى استنتاج مفاده، بأن التوتر بين روسيا والغرب على أراضي أوكرانيا لن يكون له منتصر نهائي، وأن استمرار هذه الأزمة لن يؤدي إلا إلى إضعاف طرفي النزاع، ولهذا الغرض يحاولون إبعاد أنفسهم عن التطورات والاستفادة من هذه الفرصة.
كما يعتبر أردوغان استمرار الحرب فرصةً جيدةً أيضاً لبيع الأسلحة لأوكرانيا، وكذلك يعتبر توسيع نطاق العقوبات الغربية ضد روسيا فرصةً لدخول السوق الاقتصادي لهذا البلد، بدلاً من الشركات الغربية.
على الرغم من أن أردوغان يمضي قدماً بقواعد السياسة الخارجية الترکية وفقًا لرغباته الشخصية لجذب الرأي العام عشية الانتخابات، ولکن رياح السياسة لا تجري دائمًا بما تشتهي سفن أصحابها، وهذه السياسة الغامضة التي استخدمها أردوغان، قد تخرجه من المشهد السياسي التركي إلى الأبد.
المصدر/ الوقت