“لا للفرنسية”.. لغة المحتل الفرنسي تلفظ أنفاسها الأخيرة في الجزائر
تتوالى في الجزائر قرارات إنهاء التعامل باللغة الفرنسية في البلد، وسط دعوات لتعزيز مكانة العربية باعتبارها اللغة الرسمية للبلاد، وكذا دعم وجود الإنجليزية في التعليم.
فمن خلال فترة احتلالها للجزائر، التي امتدت طوال قرن ونصف، اتبعت فرنسا الاستعمارية سياسةً ممنهجةً لطمس الهوية الجزائرية، بممارسة المسخ الثقافي واللغوي الذي ارتكن إلى محو الشخصية الجزائرية التي تكونت بفعل التراكمات التاريخية، من ذلك ضرب اللغة العربية التي تعتبر ركيزةً أساسيةً وإحدى مقومات الشعب الجزائري التي توحده، وجعل التعليم باللغة الفرنسية، فباريس تنظر للغة موليير على أنها أداة نفوذ ثقافي يعزز نفوذها السياسي والاقتصادي في مستعمراتها.
كما قضى المستعمر الفرنسي على التعليم العربي ونفى المعلمين واستولى على أملاك الأوقاف التي كان التعليم بفضلها يقف سدًا منيعًا في وجه الأمية بالجزائر، بهدف إحداث خلخلة في النسيج الاجتماعي الجزائري والمس بمقومات هويته وطمس معالم شخصيته العربية.
من جانبها نشرت صحيفة ‘‘لوفيغارو’’ الفرنسية يوم أمس السبت ، تحقيقاً قالت فيه إن وضع اللغة الفرنسية في الجزائر لا يتجه نحو الأحسن مستقبلا، ذلك لأن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون قرر في الــ 30 من يوليو/تموز الماضي، أن تصبح اللغة الإنكليزية إلزامية من بداية السنة الثالثة ابتدائي، بالموازاة مع تعليم اللغة الفرنسية، واعتبر الرئيس الجزائري أن اللغة الفرنسية هي ‘‘غنيمة حرب’’ لكن اللغة الإنكليزية هي لغة عالمية، في إشارة إلى تعبير أحد رواد الأدب الجزائري، كاتب ياسين.
‘‘لوفيغارو’’ نقلت، في هذا التحقيق، عن خولة طالب الإبراهيمي الحاصلة على شهادة الدكتوراه في اللسانيات والأستاذة بقسم اللغة العربية وآدابها بجامعة الجزائر، قولها إن طلاب السنة الأولى وبعد أن كانوا في السابق يكتبون ويتحدثون اللغة الفرنسية جيدا، باتوا اليوم غير قادرين حتى على تكوين أحرف لاتينية.
كما نقلت الصحيفة عن الدكتور شريف بن بولعيد، حفيد الشهيد مصطفى بن بولعيد بطل الثورة الجزائرية، قوله إن قرار الرئيس الجزائري تاريخي وهو ثمرة عمل طويل الأمد بدأ في التسعينيات.
وتابعت ‘‘لوفيغارو’’ التوضيح أن سياسة تعويض اللغة الفرنسية في مناهج التعليم في الجزائر بدأت منذ عام 2019، لكن الأحداث تسارعت في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2021 بعد الأزمة الدبلوماسية التي سببتها تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التي شكك فيها بشكل خاص في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي. حينها أمرت كل من وزارة الشباب والرياضة ووزارة التكوين المهني باستخدام اللغة العربية في مراسلاتهم واستبعاد اللغة الفرنسية.
لكن تضيف ‘‘لوفيغارو’’- في مقابل تراجع السلطات الجزائرية عن اللغة الفرنسية، بادر أولياء فئة واسعة من التلاميذ الجزائريين إلى تسجيل أبنائهم في مدارس خاصة، نظرًا لأن المدرسة الحكومية الجزائرية تتراجع، وأن هؤلاء الأولياء أرادوا إنشاء مدارس تضمن مستقبلًا لأطفالهم. ولن يتم ذلك إلا من خلال إتقان اللغة الفرنسية للتمكن من متابعة الدراسات العلمية في إحدى الجامعات الجزائرية، على غرار الطب والهندسة وغيرهما من الاختصاصات التي لا تدرس في الجامعات سوى باللغات الفرنسية. وأيضا سيكون من السهل على هؤلاء الطلاب الذين درسوا باللغة الفرنسية متابعة دراساتهم العليا في جامعات دول ما وراء البحر الأبيض المتوسط.
وأوضحت ‘‘لوفيغارو’’ أن الجانب الفرنسي يدرك جيداً، من جهته، أنه بصدد فقدان تأثيره في منطقة المغرب العربي لصالح الطرف الأنغلوساكسوني، غير أن دبلوماسيا فرنسيا رأى أن ‘‘المشكلة تظل تقتصر فقط على الدول المغاربية، على عكس الدول الخليجية التي تسعى إلى تنويع شركائها، وعبرت عن حاجتها الكبيرة للغة الفرنسية وللثقافة الفرنسية’’.
ونقلت ‘‘لوفيغارو’’ مرة أخرى عن خولة طالب الإبراهيمي، قولها إنه ‘‘في مواجهة قوة انتشار اللغة الإنكليزية، يجب على الفرنسيين أن يفهموا أن الحرب المعلنة في الجزائر كان لها دائمًا بُعد سياسي”.
وأشارت الصحيفة إلى أنه خلال زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الجزائر في أغسطس/آب، تمت كتابة المنشورات خلال المؤتمر الصحافي المشترك مع الرئيس عبد المجيد تبون باللغتين الإنكليزية والعربية. وطُرحت، خلال لقائه بالمبدعين الشباب، أسئلة معينة على الرئيس الفرنسي باللغة الإنكليزية.
غير أن نقابات التعليم والمعلمين في الجزائر قدمت احتجاجها بالفعل، مستنكرة ‘‘الاندفاع’’ ومشددة على أن المدارس الجزائرية ليست جاهزة، وأن المعلمين غير مدربين بما يكفي لتدريس اللغة الإنكليزية، وأن الأمر كان يحتاج إلى سنة من التأمل من أجل التعايش الجيد مع اللغات الأخرى التي تدرس في المدرسة الابتدائية.
بالعودة تاريخياً، سنة 1962، تحقق الهدف العسكري من ثورة التحرير واستقلت الجزائر، إلا أن بناة الدولة الوطنية وجدوا أنفسهم في حرب جديدة، ألا وهي حرب الهوية، فلآن خرج المستعمر الفرنسي رسميًا من البلاد إلا أنه استطاع غرس ثقافته بالقوة هناك وتمكن من فرض لغته وإقصاء اللغة العربية التي أصبحت على الهامش.
استيقظ الجزائريون غداة الاستقلال على هول معركة أخرى، معركة إعلاء اللغة العربية وإرجاعها إلى سالف عهدها وأحسن بعد ما عرفته من تراجع خلال فترة الاستعمار الطويلة للبلاد، فما إن تم الاستقلال حتى بدأت أولى محاولات الانفكاك من اللغة الفرنسية.
سنة 1963، نص دستور البلاد الجديد على أن العربية هي اللغة الرسمية للبلاد، قبل صدور أول الإجراءات العملية للأمر الرئاسي يوم 26 أبريل/نيسان 1968، المتضمن إجبارية معرفة اللغة العربية على الموظفين.
بعدها بسنتين، تقدم الرئيس هواري بومدين خطوة أخرى بإصداره أمرية جديدة بوجوب تعريب وثائق الحالة المدنية، ونقل كل السجلات العائلية من الفرنسية إلى العربية، وتبع ذلك تعريب الأختام الرسمية، وفي سبتمبر/أيلول 1971، أشرف بومدين على تنصيب اللجنة الوطنية المكلفة بعملية التعريب في كل قطاعات الحياة العمومية.
واصل بومدين خطواته نحو إعلاء اللغة العربية، إذ احتضنت بلاده في ديسمبر/كانون الثاني 1973 المؤتمر العربي الثاني للتعريب، وفي 16 أبريل/نيسان 1976، صدرت أمرية المدرسة الأساسية مكرسة بذلك الانتماء العربي الإسلامي للجزائر.
في نوفمبر/تشرين الثاني 1976، جرى البدء بتعريب المحيط وشملت العملية مختلف الوزارات والولايات والإدارات والشركات والبلديات، حيث استبدل الحرف اللاتيني بالحرف العربي والأسماء الفرنسية بأسماء جزائرية لشهداء وشخصيات تاريخية وأسماء عربية وإسلامية.
في مايو/أيار 1980 تدخلت جبهة التحرير الوطني – الحزب الوحيد القائد للدولة – لتقرير تعميم استعمال اللغة العربية وإلزام الوزراء، وهم أعضاؤها، بتطبيق القرار وتقديم عروض حال عن سير العملية، وفق ما يثبته أرشيف مداولات الحزب.
تواصلت الخطوات الجزائرية لإعلاء اللغة العربية بنسق حثيث، ففي يناير/كانون الثاني 1991، تبنّى البرلمان الجزائري تشريع تعميم استعمال اللغة العربية وحُدّد يوم 5 يوليو/تموز 1992 موعدًا نهائيًا لتطبيقه، لكن تم التراجع عنه بتوقيف المسار الانتخابي في 11 يناير/كانون الثاني 1992 وصعود التيار الفرنسي إلى الحكم، عبر المجلس الأعلى للدولة.
نهاية سنة 1996، صوت البرلمان بالأغلبية على قرار رفع التجميد وإحياء المجلس الأعلى للغة العربية الذي ما زال مستمرًا إلى الآن، وحدد القانون المذكور آجال التعميم بتاريخ 5 يوليو/تموز 1998، في حين مدّد المهلة بالنسبة للتدريس في كل المعاهد ومؤسسات التعليم العالي إلى أجل أقصاه الموعد نفسه من عام 2000.
البداية كانت بوزارة التعليم، ففي يوليو/تموز 2019، قررت وزارة التعليم اعتماد الإنجليزية لغة أجنبية أولى في التدريس والبحث العلمي بالجامعات بدلًا من الفرنسية، واعتمدت الوزارة في ذلك على استفتاء أطلقته، فقد صوت أكثر من 90% لمصلحة تعزيز استعمال اللغة الإنجليزية في قطاع التعليم العالي والبحث العلمي، وقبل ذلك، وجه الوزير طيب بوزيد تعليماته إلى رؤساء الجامعات بكتابة ترويسة الوثائق الرسمية والإدارية باللغتين العربية والإنجليزية، عوض الفرنسية.
في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، أصدر وزير العمل والضمان الاجتماعي السابق الهاشمي جعبوب، لكل إطارات الوزارة، تعميمًا يحظر فيه استخدام الفرنسية عند استقبال ومخاطبة المواطنين، ثم تتابعت القرارات الوزارية الرامية إلى إلغاء الفرنسية وتعويضها بالعربية.
أصدرت 3 وزارات هي: التكوين المهني والشباب والرياضة والعمل، تعليمات إنهاء التعامل بالفرنسية واستخدام العربية حصرًا في جميع المراسلات والتقارير ومحاضر الاجتماعات والوثائق، كما صدرت تعليمات بإنهاء التعامل بالفرنسية داخل القطاعات الحكومية.
وفي الأثناء، استبدلت وزارة الصحة والسكان في الجزائر اللافتات داخل العديد من المستشفيات من اللغة الفرنسية إلى الإنجليزية، كما انتشرت اللافتات المكتوبة باللغة العربية على أوجه المحلات والمؤسسات الخاصة والعامة.
رغم كل هذه الجهود المتواصلة للتخلص من اللغة الفرنسية، ما زالت هذه الأخيرة مهيمنة في هذا البلد العربي، فكل الوزارات تستعمل اللغة الفرنسية في أغلب مراسلاتها الداخلية وحتى في بياناتها الرسمية، باستثناء وزارة الدفاع.
كما أن اللغة الفرنسية هي الأكثر استخدامًا في الجزائر منذ عقود، إذ تهيمن على أغلب التعاملات الرسمية داخل المؤسسات العمومية وعلى المناهج الدراسية، كما يكثر استعمالها في التخاطب اليومي بين الجزائريين.
أظهر آخر تقرير لـ”مرصد اللغة الفرنسية” التابع للمنظمة الدولية للفرنكوفونية، أن عدد المتحدثين باللغة الفرنسية في العالم بلغ 300 مليون شخص، بينهم 13 مليونًا و800 ألف جزائري، أي ما نسبته 33% من الجزائريين يتحدثون الفرنسية في حياتهم اليومية.
يطرح هذا الأمر تساؤلات كثيرة، ففي الوقت الذي يسعى فيه الجزائريون للتخلص من اللغة الفرنسية، ما زال عدد كبير منهم يتحدث بها في تعاملاته اليومية وفي المنزل، حتى إنه من الصعب أن تسمع جزائرياً يقول جملة دون أن تكون فيها كلمة فرنسية.
نفهم من هنا وجود تحديات كبيرة أمام الجزائريين للتخلص نهائيًا من اللغة الفرنسية وطي صفحتها، وخاصة في ظل عدم استفادتهم منها لضعفها وعدم تعامل أغلبية المؤسسات والشركات العالمية بها، ذلك أن الفرنسية أصبحت لغة “منبوذةً” عالميًا.
يحتاج إعلاء العربية والتخلي عن الفرنسية إرادة سياسية وشعبية كبرى في هذا الشأن، فالمطلوب ممارسة العربية والتحدث بها في المؤسسات والشوارع في ظل عدم استفادة الجزائريين من لغة الاستعمار ويقينهم أن اللغة أداة استعمارية.
المصدر / الوقت