“شتاء الإضرابات” في أوروبا… أزمة بدأت فصولها الأولی فقط
كان العديد من العاملين في المكاتب الإدارية في بريطانيا، يتطلعون للاحتفال بعيد الميلاد مع زملائهم هذا العام للعام الأول بعد التغلب على أزمة وباء كورونا، لكن الآن العديد من هذه الاحتفالات على وشك الإغلاق لسبب آخر.
في الأيام القليلة الماضية فقط، أضربت النقابات العمالية المختلفة في بريطانيا وألمانيا وهولندا وإسبانيا والبرتغال والنمسا عن العمل، وطالبت بزيادة أجورها وفقًا لمعدل التضخم.
وتسببت هذه الإضرابات في مواجهة مواطني الدول الأوروبية للعديد من المشكلات، في مجال حركة السكك الحديدية ورحلات الركاب والتعليم الجامعي والخدمات الطبية والخدمات البريدية والخدمات المصرفية، وغيرها من الخدمات الحكومية.
بالأمس، أفادت الأنباء بأن إضراب عمال السكك الحديدية في النمسا قد أزعج معظم الدول الأوروبية. حيث توقفت حركة جميع قطارات السكك الحديدية النمساوية منذ منتصف ليل الاثنين الماضي، في ما يقرب من ثمانية آلاف طريق اتصال، بسبب الإضراب الذي استمر 24 ساعة لنحو مليون عامل بهذه الشركة بسبب الأجور.
تعتبر النمسا، التي تقع بين ثماني دول بما في ذلك إيطاليا وألمانيا وسويسرا والمجر وجمهورية التشيك، مركزًا مهمًا للسفر عبر القطارات الأوروبية.
النقابة الرئيسية لعمال السكك الحديدية طالبت بزيادة الأجور الشهرية بمقدار 400 يورو (417 دولارًا) لـ 50 ألف عامل في هذا القطاع؛ لكن مقترح شركة السكك الحديدية هو زيادة الأجور بمقدار 208 يورو، إضافة إلى دفعة قدرها 1000 يورو.
عندما بدأت الحرب في أوكرانيا، كان من المتوقع أن تظهر آثار الصراع الروسي الغربي على سبل العيش في شتاء قاسٍ، لكن السياسات الاقتصادية للدول الأوروبية أوصلت العمل في هذه البلدان إلى نقطة بدأت فيها الاحتجاجات والإضرابات منذ بداية الخريف. بالطبع، يقول الخبراء إن أوروبا لم تشهد بعد تلك الصدمة الكبيرة التي من شأنها أن تسبب الأزمة الرئيسية.
قبل خمسة أشهر فقط، عندما انخفض تدفق الغاز الطبيعي من روسيا بشدة وتم تقنينه وكان الدمار الاقتصادي وشيكًا، أصدر الاتحاد الأوروبي توجيهًا يأمر الأعضاء بالتأكد من أن تكون مرافق تخزين الغاز ممتلئةً بنسبة 80 في المئة على الأقل، بحلول الأول من نوفمبر.
وفي النهاية، حقق الأوروبيون بسهولة الهدف المنشود. حيث إن احتياطيات الغاز ممتلئة حاليًا بنسبة 95 في المئة، وهناك المزيد من الغاز في انتظار تفريغ أسطول الناقلات المتوقفة عن العمل قبالة سواحل أوروبا. لكن هل انتهت الأزمة الأوروبية قبل أن تبدأ؟
الإجابة على هذا السؤال بالنفي. ينتهج السياسيون الأوروبيون حاليًا سياسة الإنفاق الباذخ لتأمين مصادر الطاقة البديلة، وحماية المستهلكين من ارتفاع الأسعار. لكن أزمة الطاقة لم تنته بعد، والانقسامات داخل أوروبا حول كيفية التعامل معها آخذة في الازدياد.
کما أن التضخم في طريقه إلی الازدياد. وتخلق التكلفة الهائلة للطاقة المدعومة مشاكل كبيرة وعميقة الجذور، وجهود الحكومات لإبقاء البيوت دافئةً تجعلها تغفل عن القضايا المهمة الأخرى. وبالتالي، فقد بدأت الأزمة الأوروبية لتوها.
الصراع على السلطة
كتبت مجلة “ذي إيكونوميست” أن قضية الطاقة هي في قلب مشاكل القارة الخضراء. ورغم أن سعر بيع الغاز بلغ 125 يورو لكل ميغاواط/ساعة، إلا أن سعره كان أقل من 20 يورو العام الماضي.
وعلى الرغم من بعض التحسينات، فلا تزال هناك مشاكل مثل إغلاق العديد من محطات الطاقة النووية الفرنسية للإصلاح، وانخفاض مستويات المياه في الأنهار والخزانات التي تغذي محطات الطاقة الكهرومائية في أوروبا نتيجةً للجفاف، ما تسبب في ارتفاع أسعار الكهرباء في الصيف.
في غضون ذلك، لا تزال روسيا تبيع القليل من الغاز لبعض الدول في جنوب وشرق أوروبا، وهددت هذا الأسبوع بإحداث المزيد من الخراب في أسواق الطاقة بقطع إمدادات الغاز.
کانت روسيا تزوِّد الاتحاد الأوروبي بـ 40-50٪ من احتياجاته من الغاز في السابق. وبعد الهجوم الروسي علی أوكرانيا في فبراير، حاولت أوروبا قطع إمدادات الغاز الروسي ببطء، حيث لم يكن استبدال الغاز الروسي أمرًا سهلاً. لكن روسيا قطعت صادراتها فجأةً في يونيو/حزيران، وأصبحت الآن تزود أوروبا بنحو 15 بالمئة فقط من وارداته.
کما عانى الأوروبيون من الحرب في أوكرانيا من ناحية أخرى أيضًا، وهي أن هذه الحرب كانت أزمةً ورّطت واشنطن الأوروبيين بها من أجل مصالحها الاستراتيجية. ويعتبر العديد من المراقبين السياسيين الحرب في أوكرانيا منجم ذهب لعمالقة الأسلحة الأمريكية.
إضافةً إلى ذلك، أدى تقليص واردات النفط والغاز من روسيا من قبل الدول الأوروبية، إلى زيادة تصدير “الغاز الطبيعي المسال” من أمريكا إلى أوروبا بسعر باهظ. وخلال نفس الفترة منذ بداية الحرب في أوكرانيا، أصبحت أمريكا أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم.
إضافة إلى ذلك، بعد الحرب في أوكرانيا، نجح الأمريكيون في إعادة تعزيز حلف الناتو، الذي سبق أن وصل إلى حدود الأزمة، ومن ناحية أخرى، جعلوا الدول الأوروبية ضعيفةً تضطر إلی الاعتماد علی الولايات المتحدة في مجال الأمن والطاقة.
وكان انفجار خط أنابيب الغاز “نورد ستريم 1″، في الواقع، ضربة واشنطن الأخيرة لأوروبا لقطع الأمل عن الغاز الروسي. والمشاكل والمعاناة التي نراها في الدول الأوروبية هذه الأيام، هي نتيجة اتباع أوروبا غير المشروط لسياسات واشنطن.
تضخم غير مسبوق
أدى ارتفاع أسعار الطاقة، بما في ذلك الغاز الطبيعي، إلى ارتفاع تكاليف المعيشة للأسر في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي إلى مستويات قياسية، ما دفع الحكومات إلى خفض الضرائب والإعانات التي تبلغ قيمتها مليارات اليورو.
وفي حين أن العديد من الدول الغربية قد حلت مشكلة التضخم لعقود من الزمن، فإن الزيادة في معدل التضخم في بعض الدول الأوروبية خلال الأشهر الماضية، أنهت هذا الإنجاز الذي استمرّ لعقود.
وتظهر سلسلة من التقارير التي نشرها معهد كامبريدج للاقتصاد القياسي في أكتوبر ونوفمبر 2022، أن الأسر في دول الاتحاد الأوروبي تنفق على الطاقة أكثر مما كانت عليه في عام 2020، وتقدم الحكومات مليارات اليوروهات للمستهلكين لدفع فواتير الكهرباء وخفض الضرائب.
على سبيل المثال، في فرنسا، تنفق الأسرة الأفقر حاليًا 35٪ على الطاقة أكثر مما كانت عليه في عام 2020. وبين أغسطس 2020 وأغسطس 2022، ارتفعت أسعار الطاقة المنزلية بنسبة 37٪، بينما ارتفع التضخم الإجمالي بنسبة 9.2٪.
وقال التقرير: “نحن نقدر أن الزيادة في أسعار الطاقة المنزلية، ستجعل الأسر الفرنسية تدفع 410 يورو أكثر في 2022 مما كانت عليه في 2022، ويرجع ذلك أساسًا إلى ارتفاع أسعار الوقود”.
وفي إيطاليا، كان الوقود الأحفوري وحده مسؤولاً عن ما يقرب من 30 في المئة من معدل التضخم السنوي للبلاد في ربيع عام 2022. في هذا البلد، على عكس البلدان الأوروبية الأخرى، تجاوزت أسعار بيع الكهرباء بالتجزئة أسعار الطاقة الأخرى في إيطاليا، وفي يوليو 2022، كانت أعلى بنحو 112٪ مما كانت عليه في أغسطس 2020.
وفي نفس الفترة الزمنية، ارتفع سعر بيع الوقود بالتجزئة بنسبة 14٪، ووقود الديزل بنسبة 22٪، والغاز الطبيعي بنسبة 42٪.
وينص تقرير معهد الاقتصاد القياسي على أن: “تقديراتنا تشير إلى أن الأسر في الفئات العشرية الأقل دخلاً، ستنفق الآن 50٪ أكثر على الطاقة مما كانت عليه في عام 2020.”
إن الزيادة في معدل التضخم الناتجة عن ارتفاع أسعار الطاقة، وأسعار المواد الخام مثل الحبوب، وأسعار المعادن والأسمدة الكيماوية بعد بدء الحرب في أوكرانيا، قد خلقت العديد من المشاكل في الاقتصادات الأوروبية. لكن الإضراب في قطاعي الطاقة والعمل الذي نشهده في البلدان الأوروبية، يمكن أن يدخل اقتصاد هذه البلدان في ركود أوسع وأعمق.
وأدى هذا الوضع إلى خروج المتظاهرين إلى الشوارع للاحتجاج على قرارات الاتحاد الأوروبي، والمطالبة بإلغاء العقوبات الروسية، لعودة الوصول إلى النفط والغاز الرخيصين من موسكو.
ويرى المواطنون الأوروبيون أن الوضع الصعب الحالي هو نتيجة سياسات الاتحاد الأوروبي في اتباعه الأعمى للسياسات الأمريكية، وبالتالي يطالبون بانسحاب دولهم من الناتو والاتحاد الأوروبي.
وإذا لم يتمكن القادة الأوروبيون من تلبية مطالب المحتجين بزيادة الأجور وانخفاض معدلات التضخم وأزمة ارتفاع أسعار الوقود ونقص الغاز، فإن الهوية الوجودية لحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي ستكون في خطر، وقد يؤدي ذلك حتى إلى انهياره.
المصدر/ الوقت