السعودية وقضية اختراق “ويكيبيديا”.. التفاصيل والأسرار
يكاد لا يمكن أن يمر أسبوع واحد، إلا وتطلعنا الصحافة العربيّة أو الغربيّة على فضيحة جديدة مرتبطة بملف السعودية الحقوقيّ، حيث أكّدت منظمتان حقوقيتان مؤخراً أنّ الرياض أقدمت على اختراق “ويكيبيديا” وسجنت اثنين من أبرز مشرفيها في أيلول/ سبتمبر 2020، وذلك بهدف السيطرة على محتوى الموسوعة الإلكترونيّة الشهيرة، في الوقت الذي تصرّ فيه سلطات البلاد على الاستمرار بنهج ملاحقة الناشطين والاعتقالات التعسفيّة والانتهاكات ضد النشطاء المعارضين ودعاة الإصلاح، ولم تترك تلك المنظمات كلمة تنديد إلا واستخدمتها بحق السلوك القمعيّ للسلطات السعودية ضد المواطنين، فيما تأتي الأوامر التي تتلقاها الأجهزة الأمنيّة بشكل مباشر من ولي العهد، وفقاً لما يقوله السعوديون.
السعوديّة تخترق ويكيبيديا
لأسباب مجهولة، زعمت مؤسسة “ويكيميديا” التي تدير منصة “ويكيبيديا” أنّ التقارير التي انتشرت حول القضية تحوي أخطاء جوهريّة، وذلك عقب أقل من شهر على حكم من السلطات السعودية بسجن موظف سابق في تويتر بتهمة “التجسس” لصالح المملكة، فيما بينت منظمة “الديمقراطية الآن للعالم العربي” (داون) -مقرها واشنطن-، ومنظمة “سمكس” -مقرها بيروت- في بيان مشترك، وجود تحقيق أجرته مؤسسة “ويكيميديا” التي تدير الموسوعة الإلكترونية، خلص إلى أن “الحكومة السعودية اخترقت صفوف كبار العاملين في ويكيبيديا بالمنطقة”، وأجبرت مواطنين سعوديين على العمل كـ “وكلاء” لديها.
ولا يخفى على أحد أنّ الرياض لا توفر جهداً في التجسس على حسابات المستخدمين، وتسعى دوماً لاختراق حسابات المعارضين، وكانت الرياض سابقاً وعبر عملاء لها داخل شركة تويتر، تمكنت من كشف آلاف الحسابات التي تنتقد النظام السعوديّ ومن ضمنهم أفراد في عائلة آل سعود، فيما أشارت “داون” التي تتخذ من واشنطن مقرا لها، والتي أسسها الصحفي السعودي الراحل جمال خاشقجي الذي لقي حتفه في قنصليّة بلاده باسطنبول وقّطعت جثته إرباً، ومنظمة “سمكس” المدافعة عن الحقوق الرقمية في العالم العربي، إلى تلقيهما هذه المعلومات من “مبلّغين عن المخالفات ومصادر موثوقة” في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وفي ظل مزاعم “ويكيميديا” حول أنّ التقرير لم يخلص إلى أن الحكومة السعودية اخترقت ويكيبيديا وأثرت على المستخدمين، لم يتفاجأ مراقبون للشأن السعوديّ من صحة تلك الأنباء، بالاستناد إلى أن السلطات السعودية ماضية في منهج محاربة المعارضة وكل ما يمكن أن يؤثر على نظامها المتهالك، والدليل الاعتقالات التعسفيّة والانتهاكات ضد النشطاء المعارضين ودعاة الإصلاح، وما يرافقها من سلوك قمعيّ عقب التجسس على بعض المواقع الإلكترونيّة المعروفة، الشيء الذي أدى إلى مقتل وتعذيب نشطاء ومستخدمين داخل السعودية، فيما تتحدث معلومات أن بعض الضحايا لقوا حتفهم في المملكة، بعد الكشف عن بياناتهم، وأنّ عدداً منهم تعرض للتعذيب، في حين يقبع آخرون في السجون منذ سنوات.
دليل آخر، هو محاولة تستر المؤسسة على بعض المعلومات، بقولها إنّ بعض المحررين المتطوعين “ربما كانوا سعوديين”، وكانوا من بين المشرفين الذين حظرتهم، ولم تعلق الحكومة السعودية على الأمر، كما لم تُقدم “ويكيميديا” التي تقدم محتوى تثقيفيّاً مجانيّاً عبر الإنترنت تفاصيل أكثر حول القضية، حيث يحاول محمد بن سلمان جاهداً الخروج من الأزمات الداخليّة والخارجيّة وخاصة على المستوى السياسيّ، عبر إظهار صورة كاذبة لبلاده وما يجري داخلها، وخلقِ تاريخ زائف لوصوله للحكم وطريقة إدارته للبلاد، لكنه –كما يقول البعض كالعالق في الرمال كلما تحرك أكثر كلما انغمس في أعماق شروره، ليصبح هروب ولي العهد السعوديّ من قضايا تصفية منافسيه واعتقال أفراد عائلاتهم داخل البلاد والقضاء على معارضيه وتشويه الحقائق، نسياً منسيّاً، وخاصة مع وجود ناشطين شغلهم الشاغل فضح العهر السياسيّ لبعض المستبدين.
صورة مغايرة عن المملكة
لا شكّ أنّ الوضع السياسي المتأزم الذي تعيشه بلاد الحرمين، يُظهر مدى استماتة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، لإظهار صورة مغايرة عن البلاد التي حوّلها لمزرعة شخصيّة، عقب تصفية واقتلاع جذور معارضيه، حفاظاً على عرشه المتهالك، وإنّ من تصل به الأمور إلى تقطيع معارضيه كما تقول بعض التقارير، وتهديد أرواح عائلاتهم وأطفالهم داخل البلاد ومحاولة اغتيالهم خارجها، وإجبار من يتبقى منهم على الخضوع لسياساته الرعناء المتهورة، وقد جاء بيان “داون” و”سمكس” المشترك بعد إعلان ويكيميديا الشهر الفائت عن حظر عالمي لـ16 مستخدماً كانوا يشاركون في عمليات تحرير إعلاميّة تحمل تضارباً في المصالح في مشاريع ويكيبيديا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وزعمت أنّها اتخذت قرار الحجب نظراً لـ “خطورة الموقف وللحفاظ على سلامة المستخدمين والمشروعات”، بحسب توصيفها.
وعلى هذا الأساس، فإنّ من يخترق أكثر من 6000 حساب شخصيّ على مواقع التواصل الاجتماعي، من قبل موظفين أثناء عملهم التجسسيّ لصالح محمد بن سلمان، يستطيع ببساطة مطلقة تجنيد عملاء كثر في أماكن أخرى، والدليل ما قالته ويكيميديا في بيان في يناير/كانون الثاني المنصرم، حول أنها أطلقت تحقيقاً أتاح التأكد من أن عددا من المشرفين الذين تربطهم صلات وثيقة بجهات خارجية، كانوا يقومون بعملية التحرير الإعلاميّ في المنصة بطريقة منسقة لتعزيز أهدف تلك الجهات، وقد أكدت “داون” و”سمكس” نقلا عن مصادرهما أن ويكيميديا كانت تشير بشكل مباشر إلى عمل بعض المستخدمين السعوديين تحت ظل الحكومة السعودية، فمنذ تولي محمد بن سلمان الحكم في بلاد الحرمين، تضاعف عدد المعتقلين في البلاد بشكل كبير، وحسب منظمات حقوقيّة فإنّ الكثير من المعتقلين في السعودية تعرضوا للتعذيب النفسيّ أو الجسديّ، أو للاحتجاز المستمر في العزل الانفراديّ، في أسلوب يجسد طبيعة النظام الحاكم في البلاد ويعكس حجم ظلمه واستبداده، ما يظهر ولي العهد على صورته الحقيقيّة مجدداً، بعد أن جعل بلاده تتفوق على كل جيرانها في القمع والحكم الاستبداديّ، ناهيك عن حظر التنظيمات السياسيّة والحريات العامة.
وباعتبار أن المسؤولين السعوديين يستخدمون أساليب جديدة لإسكات وسائل الإعلام والأقلام الحرة، عبر قمع حرية التعبير وحرية الصحافة في المملكة، نوّهت المؤسستان أن اثنين من “المشرفين” رفيعي المستوى، وهما إداريان متطوعان يتمتعان بامتياز الوصول إلى أدوات ويكيبيديا الخاصة، بما في ذلك القدرة على تحرير الصفحات المحمية بالكامل، ما زالا مسجونين لدى السلطات السعودية منذ توقيفهما في اليوم نفسه في سبتمبر/أيلول 2020، وقالت إن التوقيفات كانت على ما يبدو جزءا من حملة قمع واسعة على مشرفي ويكيبيديا في البلاد، وذكرتا أن الشخصين المسجونين هما السعوديان أسامة خالد وزياد السفياني، بما يظهر جانباً مرعباً من الطريقة التي تريد الحكومة السعودية من خلالها السيطرة على السردية وويكيبيديا، وفقاً لمدير منطقة الخليج في منظمة “داون” عبدالله العودة، والذي أشار إلى أن السلطات السعودية حكمت على خالد بالسجن 32 عاماً والسفياني 8 سنوات.
في الختام، شهد الشهر الفائت حكماً من محكمة في سان فرانسيسكو على الموظف السابق في تويتر “أحمد أبو عمو” بالسجن ثلاث سنوات ونصف سنة بتهمة ارتكاب جرائم من بينها العمل خلافاً للقانون لمصلحة حكومة أجنبيّة، واتهم المدّعون أبو عمو وزميله في تويتر “علي الزبارة” المطلوب للشرطة الفيدراليّة الأمريكية، بالعمل لحساب مسؤولين سعوديين بين أواخر 2014 وأوائل العام التالي للحصول على معلومات خاصة عن الحسابات التي تنتقد النظام في المملكة الخليجية التي تجعل المصير الوحيد لمن يُعبر عن آرائه، إقامة دائمة خلف القضبان، لمجرد ممارسة حقهم المشروع في حرية التعبير وتكوين الجمعيات والتجمع، ما يجعلهم يخسرون سنوات طويلة من حياتهم لمجرد انتقادات أو دعوات إلى التغيير والإصلاح في بلد لا تعرف من الحرية حتى اسمها.
المصدر/ الوقت