شراكة استراتيجية شاملة بين الصين ودول آسيا الوسطى… الاتجاهات والأحداث
في السنوات الأخيرة، زادت الصين بشكل كبير من التفاعلات الثنائية والمتعددة الأطراف مع دول آسيا الوسطى.
وقعت الصين شراكةً استراتيجيةً شاملةً مع جميع دول آسيا الوسطى، ما يشير إلى الموقع الجغرافي المهم للسياسة الخارجية الموجهة نحو التنمية في آسيا الوسطى، والخريطة العالمية لتوسيع الشبكة التجارية-الاقتصادية الدولية لبكين.
وتم تعزيز هذا الموقف مع بدء الحرب في أوكرانيا والعقوبات الاقتصادية الواسعة النطاق من الغرب ضد روسيا، حيث أصبحت آسيا الوسطى عمليًا أول طرق تجارية بديلة لوصول الصين إلى السوق الأوروبية.
في العام الماضي (2022)، زار الرئيس الصيني شي جين بينغ كازاخستان وأوزبكستان في أول زيارة خارجية له منذ بداية الوباء. وفي الأسبوع الماضي أيضًا، أصبح رئيس تركمانستان أول زعيم من آسيا الوسطى(وثاني زعيم أجنبي) يلتقي مع شي جين بينغ في العام الجديد، الأمر الذي ترافق مع اتفاقات لرفع العلاقات إلى مستوى استراتيجي.
تُظهر الاجتماعات المتكررة بين رؤساء هذه الدول أن الصين تولي أهميةً متزايدةً لآسيا الوسطى، وأن آسيا الوسطى قد اضطلعت بدور أكثر أهميةً في دبلوماسية الجوار الصينية، وخاصةً بعد الحرب الروسية الأوكرانية.
تعمل الصين على تطوير العلاقات مع دول آسيا الوسطى الخمس على ثلاثة مستويات متميزة، ولكنها مترابطة ومتداخلة. الأول، إبرام اتفاقيات شراكة استراتيجية ثنائية شاملة، والثاني هو التعاون الإقليمي المشترك، والثالث هو التعاون الشامل بين الصين وآسيا الوسطى في مبادرة “الحزام والطريق” العملاق.
في البعد الأول، أقامت الصين شراكةً استراتيجيةً شاملةً مع كازاخستان في عام 2011، والتي أصبحت فيما بعد شراكة استراتيجية شاملة دائمة، تلتها أوزبكستان في عام 2016، وطاجيكستان في عام 2017، وقيرغيزستان في عام 2018.
وتركمانستان هي الدولة الأخيرة في آسيا الوسطى التي خططت لمثل هذه العلاقات مع الصين، خلال الزيارة الأخيرة لرئيس تركمانستان “سردار بردي محمدوف” إلى بكين.
وعلى المستوى الإقليمي ومتعدد الأطراف، اقترحت الصين أيضًا إنشاء آلية التعاون بين الصين وآسيا الوسطى(C + C5)، وهي شكل جديد من التعاون متعدد الأطراف بين الصين ودول آسيا الوسطى خارج منظمة شنغهاي للتعاون(SCO). وبدعم من تركمانستان ودول وسط آسيا الأخرى، من المقرر عقد أول قمة “C + C5” هذا العام.
في الوقت نفسه، وقعت الصين اتفاقيات تعاون في إطار مبادرة الحزام والطريق(BRI) مع جميع دول آسيا الوسطى، من أجل التآزر بين خطة العبور الرئيسية هذه واستراتيجيات التنمية في آسيا الوسطى.
ويعتبر الاتصال الإقليمي من مختلف الطرق، بما في ذلك السكك الحديدية عبر الحدود والتعاون في مجال النفط والغاز والتجارة والاستثمار، أمرًا مهمًا للغاية في اتفاقيات الحزام والطريق.
آسيا الوسطى هي المكان الذي بدأت فيه المرحلة التشغيلية لمبادرة الحزام والطريق. يعدّ خط أنابيب الغاز الطبيعي بين الصين وآسيا الوسطى، أطول خط أنابيب للغاز الطبيعي في العالم. واعتبارًا من يونيو 2022، تجاوز نقل الغاز من تركمانستان إلى الصين 400 مليار متر مكعب.
کما أن خط سكة حديد أوزبكستان “أنجرين-بوب” بطول 123 كم ونفقه الكبير الذي يبلغ طوله أكثر من 19 كم، غيّر تمامًا وضع الترانزيت من الصين إلى آسيا الوسطى. حيث إنه حسب التقديرات، بعد تدشين خط السكة الحديد الجديد، سيتم نقل 10 ملايين طن من البضائع سنوياً عبر السكك الحديدية.
وجدير بالذكر أنه بما أن تركمانستان تحدها أوزبكستان وأفغانستان وإيران وبحر قزوين، فإن خط السكة الحديدية بين الصين وتركمانستان، سيكون امتدادًا لخط السكك الحديدية لمشروع السكك الحديدية بين الصين وقرغيزستان وأوزبكستان.
تهدف الصين إلى جعل خط السكك الحديدية بين الصين وقرغيزستان وأوزبكستان وتركمانستان، حقيقةً واقعةً في السنوات المقبلة.
يمتدّ خط السكة الحديد هذا من الغرب إلى إيران ومن الجنوب إلى أفغانستان، وسيكون شريان نقل أوراسيوي وخط سكة حديد رئيسي يربط بين آسيا الوسطى وجنوب آسيا والشرق الأوسط. وإذا أمكن تمديدها إلى أفغانستان، سيتم إنشاء شبكة سكك حديدية تربط الصين وقيرغيزستان وأوزبكستان وتركمانستان وأفغانستان وباكستان.
يذكر أن الصين توصلت في الأيام الأخيرة إلى اتفاق لاستغلال النفط مع أفغانستان. من ناحية أخرى، بالنظر إلى زيادة الصادرات إلى الصين من وسط وجنوب آسيا، يمكن أيضًا تعويض عدم التوازن في التجارة بين دول هذا الخط. وبهذه الطريقة، يمكن أن يؤدي خط السكك الحديدية العابر للحدود، إلى ديناميكية ونمو اقتصادي في المنطقة.
في الوقت نفسه، من المهم ملاحظة أن وجود الصين في آسيا الوسطى لا يقتصر فقط على الأنشطة الحكومية، بل إن الشركات الخاصة مدعومة على نطاق واسع من قبل بكين بما يتماشى مع هذه الاستراتيجية.
في الواقع، على عكس ما يجادل به المسؤولون الغربيون بأن الصين تصدر نموذجها التنموي وتفرضه على دول أخرى، لكن من الناحية العملية أظهرت الصين أنها توسع نفوذها الاقتصادي بشكل أساسي من خلال العمل عبر الجهات الفاعلة والمؤسسات المحلية، وفي الوقت نفسه تكييفها مع الأشكال والمعايير والممارسات المحلية والتقليدية.
وفي هذا الصدد، واستناداً إلى نتائج البحث الذي أجراه معهد “كارنيجي” الأمريكي، تتكيف الشركات الصينية في أمريكا اللاتينية مع قوانين العمل المحلية، وفي جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط تستكشف البنوك والصناديق الصينية المنتجات المالية والائتمانية الإسلامية التقليدية، وفي آسيا الوسطى تساعد الشركات الصينية العمال المحليين على تطوير مهاراتهم.
وبناءً على تقدير معهد الأبحاث هذا، فإن هذه الاستراتيجيات التكيفية للصين، والتي تتوافق مع الحقائق المحلية وتعمل ضمن إطارها، يتم تجاهلها في الغالب من قبل صانعي السياسة الغربيين.
وتتجلى هذه القضية بوضوح في خطاب الرئيس الصيني شي جين بينغ، في اجتماع الفيديو بمناسبة الذكرى الثلاثين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين الصين وخمس دول في آسيا الوسطى في يناير من العام الماضي، حيث قال: “ليس مهماً کيف يتغير الوضع الدولي، ولا يهمّ مدى تطور الصين في المستقبل، ستظل الصين على الدوام جاراً طيباً موثوقاً به وجديراً بالثقة لدول آسيا الوسطى. شركاء جيدون، أصدقاء جيدون وإخوة طيبون”.
ومع ذلك، فإن مسار الأهداف الاستراتيجية للصين في تعزيز وجودها وتأثيرها في آسيا الوسطى، تصحبه عقبات وتحديات.
لتحقيق رؤية السكك الحديدية العابرة للحدود في وسط وجنوب آسيا، تواجه الصين أولاً تحدي انعدام الأمن والهجمات الإرهابية التي تستهدف العمال والمصالح الصينية.
کما أن عدم الاستقرار السياسي الداخلي، بما في ذلك موجة الاحتجاجات الداخلية في بلدان مثل باكستان وسريلانكا، هو تحدٍّ آخر يهدد التنمية المستدامة للمشاريع المشتركة.
إضافة إلى ذلك، فإن الركود وحتى الأزمة الاقتصادية الناجمة عن الوباء والظروف الجيولوجية المعقدة في المنطقة، هي أيضًا من بين العقبات الرئيسية أمام إنشاء خطوط السكك الحديدية العابرة للحدود في المنطقة.
لكن أحد أهم التحديات التي تواجه تطور نفوذ الصين في آسيا الوسطى، هو التدخل الأمريكي. إن أدوات تأثير الولايات المتحدة على دول آسيا الوسطى، هي الصيغة السياسية C5 + 1 أو CA5، التي أنشأتها واشنطن في عام 2015.
في فبراير 2020، وافقت إدارة ترامب على استراتيجية الولايات المتحدة لآسيا الوسطى حتى عام 2025. وهناك أدلة كثيرة على أن هذه الاستراتيجية يتم اتباعها في إدارة بايدن، واحتفظت بأهميتها.
مع صعود القوة الاقتصادية والعسكرية للصين، أبدت الولايات المتحدة اهتمامًا متزايدًا بلعب دور في التطورات في آسيا الوسطى، بهدف منع بكين من زيادة تعزيز نفوذها في المنطقة، الأمر الذي يمكن تحليله كجزء من المواجهة العالمية المتزايدة بين الولايات المتحدة والصين.
في مايو 2018، تم إجراء أول زيارة رسمية لرئيس أوزبكستان شوكت ميرزيوييف إلى واشنطن. وخلال هذه الزيارة، اتفق البلدان على بدء فترة جديدة من الشراكة الاستراتيجية. کما تم التوقيع على العديد من الاتفاقيات، بهدف تطوير العلاقات بين البلدين في مختلف المجالات، من بينها خطة خمسية للتعاون العسكري أدت إلى إجراء عدة جولات من التدريبات العسكرية المشتركة في الأشهر التالية.
على الرغم من هذه الإجراءات من الغرب، وخاصةً الولايات المتحدة، للتعامل مع تطور نفوذ الصين في آسيا الوسطى، إلا أن دول آسيا الوسطى أظهرت أنها أكثر ميلًا للتعاون مع الصين بسبب مخاوف روسيا.
فكما ورد في حالة أوزبكستان، بعد بدء الحديث عن انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان صيف 2021، وإمكانية نقل جزء من القوات الأمريكية إلى قواعد في أوزبكستان، رفض الأوزبك رسمياً قبول أي منشآت عسكرية أمريكية على أراضي هذا البلد.
لذلك، في هذه المنافسة العالمية بين القوى الدولية على الوجود والنفوذ في آسيا الوسطى، كان التنين الصيني هو الذي استطاع غزو معاقل أوراسيا واحدةً تلو الأخرى بخطوات هادئة.
المصدر/ الوقت