بومبيو ومغالطات قضية خاشقجي
مؤخراً، اتهمت حنان العتر، أرملة المجني عليه الصحفي السعودي، جمال خاشقجي، وزير الخارجية الأميركي السابق، مايك بومبيو، باختلاق أكاذيب حول زوجها الذي قتل في قنصلية بلاده في إسطنبول عام 2018، عقب نجاح نسبيّ في محاولات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان حتى اللحظة للتنصل من جريمة تقطيع واغتيال الصحفيّ السعوديّ الشهير، الذي كان مقيماً في الولايات المتحدة ويكتب في صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكيّة، حيث تساءل بومبيو في كتابه الجديد، عما إذا كان خاشقجي، يمكن اعتباره “صحفيا” أو “ناشطا” فحسب، واعتبر أنه “كان يدعم الفريق الخاسر” بالسعودية، وذلك وفقاً لما نقلته صحيفة “الغارديان” البريطانية، الشيء الذي أغضب العتر التي شدّدت على أنّ الأخير يتاجر بمأساة زوجها، من خلال حديثه عنه في كتابه الجديد بمعلومات كاذبة.
صفعة لبومبيو
لطالما زعمت الولايات المتحدة أنّها ملتزمة بالدفاع عن حرية التعبير وحماية الصحفيين والنشطاء والمعارضين في كل مكان، رغم أن واشنطن أفرجت قبل أكثر من عام عن التقرير السريّ للاستخبارات الأمريكيّة والذي كشف أنّ ولي العهد السعوديّ، محمد بن سلمان (الحاكم الفعليّ في السعودية)، أجاز عملية اغتيال الصحفيّ السعوديّ المعارض، دون أن تحرك أمريكا ساكناً في هذا الأمر، ليأتي بومبيو وينتقد السخط الذي نجم عن قتل خاشقجي، ويصف ذلك بأنه “غضب زائف”، وأن وسائل الإعلام جعلت منه النسخة السعودية من الصحفي الاستقصائيّ الأميركي الشهير، بوب وودوارد، الذي فجر فضيحة “ووترغيت” التي أدت إلى استقالة الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون من منصبه.
“إذا كنت تجهل كل شيء، فيجب عليك الصمت”، هذا ما شدّدت عليه العتر التي اعتبرت في حديثها للإعلام الأمريكيّ، أنّ كلام بومبيو دليل على أنه “لا يعلم شيئا عن زوجها، عقب قوله: “في الحقيقة، كان خاشقجي ناشطا، يدعم الفريق الخاسر في معركة على عرش المملكة، ولم يكن سعيداً بكونه منفياً”، موضحة أنّ خاشقجي بدأ عمله الصحفي منذ بداية ثمانينيات القرن الفائت وغطى تطورات في أفغانستان والجزائر، وغطى عاصفة الصحراء (حرب تحرير الكويت) عام 1991، وكان مخضرما في عالم الصحافة يعبر عن نموذج الصحفي المسلم من الشرق الأوسط، وله مواقف إنسانية كثيرة بنت شخصته وأوصلته للنتيجة التي مات عليها، حيث تناسى بومبيو الحديث عن ما هو أهم أيّ التقرير الأمريكيّ الذي بيّن أنّ ولي العهد السعوديّ، لديه سيطرة مطلقة على أجهزة الأمن والاستخبارات في البلاد منذ توليه عام 2017، ما يجعل من المستبعد جداً أن يقوم مسؤولون سعوديون بتنفيذ عملية كهذه دون ضوء أخضر من ولي العهد الذي أيّد استخدام العنف كوسيلة لإسكات المعارضين في الخارج.
وفي ظل نفي العتر –وفقاً لقناة الحرة- أن يكون زوجها الراحل اختار الجانب الخاسر بين متسابقين على العرش في السعودية، أكّدت أنّ خاشقجي كان يقول صراحة: “أنا لست ضد المملكة ولست ضد العائلة المالكة ولست ضد ولي العهد”، مضيفة: “داخل جدران منزلنا لم يكن يتحدث عنهم بسوء، بل كان وفيا للمملكة والعائلة المالكة، لكن من حقه كإنسان مستنير ولديه ضمير أن يشارك رأيه في أن يصبو إلى الديمقراطية والعدل والمساواة، ونحن نستحق في الشرق هذا”، كذلك تناسى بومبيو أن بلاده لم توقف عن بيع الأسلحة للسعودية، وهذا دليل كبير على أنّ واشنطن آخر من يلتزم باحترام سيادة القانون، وخاصة بعد رفضها القيام بدورها لتحقيق العدالة للصحافيّ المغدور، استناداً إلى تقرير مدير المخابرات الوطنية الأمريكيّة، وكأن الإدارة الأمريكيّة السابقة والآن الحالية، لا ترغب بتحميل محمد بن سلمان المسؤولية عن مقتل جمال خاشقجي، ولا ترغب أيضاً بفرض مجموعة من العقوبات عليه أو تجميد أصوله الماليّة، كما يمنع بايدن مكتب التحقيقات الفيدراليّ، من فتح تحقيق جنائيّ في الجريمة، باعتباره كان مقيماً في الولايات المتحدة، مثلما فعلوا مع أمريكيين آخرين تم قتلهم في الخارج، والسبب سياسيّ – اقتصاديّ بالمطلق.
وفي الوقت الذي اتهم فيه بومبيو الذي كان رئيسًا لوكالة المخابرات المركزية، قبل أن يصبح وزيرا للخارجية في عهد الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، -الصديق الحميم للسعودية-، خاشقجي بأنه “كان يتعامل مع جماعة الإخوان المسلمين الداعمة للإرهاب، وأنه أعرب عن أسفه لوفاة أسامة بن لادن، حسب ما نقلت “الغارديان”، معتبراً أنّ مقتل الصحفي السعودي لم يكن بمثابة مفاجأة له بقوله: “لقد رأيت ما يكفي من الشرق الأوسط لأعرف أن هذا النوع من القسوة كان شيئا روتينيا للغاية في ذلك الجزء من العالم”.
نفاق أمريكيّ شديد
ولا بد من التذكير أنّ الإدارة الأمريكيّة التي كان بومبيو وزيراً فيها ساهمت بشكل كبير للغاية في التغطية على المجرمين، كما أنّ الرئيس الأمريكيّ الحالي لم يفِ بوعده بمحاسبة ولي العهد من خلال فرض العقوبات نفسها المفروضة على المتورطين الآخرين التابعين له، وإنهاء عمليات نقل الأسلحة إلى الرياض بإمرة شخص غير منتخب وقاتل وحشيّ، في ظل أدلة مخفية كثيرة لدى الإدارة الأمريكيّة بشأن مقتل خاشقجي، بما في ذلك ما يتعلق بالمسؤولين الأمريكيين المقربين من ولي العهد السعودي، الذين ربما سهّلوا التستر على الجريمة، حيث إنّ إدارة بايدن حفاظاً على مصالحها مع السعودية لم تنشر جميع السجلات المتعلقة بجريمة القتل، بما في ذلك التقرير الأصليّ لوكالة المخابرات المركزية الأمريكيّة أو أي تقارير استخباراتية أو شرائط أخرى، إضافة إلى أي معلومات تتعلق بمعرفة إدارة الرئيس الأمريكيّ السابق، دونالد ترامب، بالتهديد الذي كان يتعرض له خاشقجي قبل وقوع جريمة القتل، التي قد تتوافر لدى أي وكالة تنفيذيّة أمريكيّة، وفقاً لمنظمات دوليّة.
من ناحية أُخرى، أشارت العتر إلى أن بومبيو حتى لو استقى معلوماته من دولة معينة في الخليج أو الشرق الأوسط، فهل هذه الأنظمة تعد مصدرا لمعلومات صحيحة، وإذا كان قد بنى رأيه بناء على افتراضات، فكان يجب عليه باعتباره سياسيا، أن يكون أكثر اتزانا ومصداقية، معتبرة أنّ كل ما تناوله عبارة عن كذب وافتراء وشيء غير مقبول من سياسي لديه طموح، ولذا كيف يسمح لنفسه أن يقلل من مأساة وتضحية جمال الذي عاشت معه لسنوات منذ عام 2009، إضافة إلى أنّها نفت انتماء زوجها الراحل لجماعة الإخوان وكذبت عبارة “هو تعاطف مع بن لادن، ولم يتعاطف أبدا مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر”.
كلنا نعلم أن قضية خاشقجي شغلت معظم دول العالم وكشفت اللثام عن حقيقة النظام الحاكم في بلاد الحرمين، رغم تعهدات واهيّة من أبرز المسؤولين الأمريكيين، حول تقديم ملف التحقيق في جريمة قتل خاشقجي إلى الكونغرس ورفع السريّة عنه، عقب قيام الرئيس الأمريكيّ السابق، دونالد ترامب بحظر نشره لسنوات بهدف حماية الرياض والحصول على مكاسب اقتصاديّة جليلة منها، حيث إنّ واشنطن التي تتحدث أنّ السياسة الأمريكيّة تجاه مملكة آل سعود ستضع في أولويتها ما تسميه “حكم القانون واحترام حقوق الإنسان”، لم تقم بدورها في محاسبة ولي العهد السعودي، بسبب تورطه المثبت في جريمة قتل خاشقجي، رغم إدراكها الكامل أنّه المجرم.
فأيّ حريّة وعدالة وقوانين تلك التي يتحدث عنها المسؤولون الأمريكيون، وأيّ دفاع عن الصحفيين وحرية الكلمة الذي يجعل القاتل الذي ارتكب أشنع جريمة بحق إعلاميّ معارض خارج دائرة المحاسبة يلهو بأهم بلد إسلاميّ على هواه ويقتل ويشرد ويدعم الإرهاب دون أي رادع أخلاقيّ أو إنسانيّ أو قانونيّ، والأهم من كل تلك الشعارات بالنسبة للولايات المتحدة أن تحصل على المال الوفير عبر ابتزاز الرياض في كل فترة ما يجعل هذا الملف ورقة رابحة دائمة، تماماً كما كانت تفعل إدارة دونالد ترامب التي ابتزت السعوديّة إلى أبعد الحدود من خلال منع نشر تفاصيل جريمة تقطيع خاشقجي، وبذلك تطوى صفحة الجريمة التاريخيّة كأنّها لم تكن رغم حساسيّتها العالميّة، ويفلت المجرمون الحقيقيون من العقاب بعد أن اكتسبت “قضية خاشقجي” بعداً سياسيّاً – اقتصاديّاً أفقدها البعد الإنسانيّ.
المصدر/ الوقت