تفاوض سوريّ – أمريكي عبر عُمان.. أسراره ومستقبله
منذ مدّة تتحدّث مصادر أبرزها إعلاميّة نقلاً عن مصادر مطلعة عن قناة اتصال للتفاوض فتحت بين الولايات المتحدة وسوريا، وتتحدث تقارير كثيرة عن عدة لقاءات جمعت مسؤولين أمريكيين مع نظرائهم السوريين في كل من الأردن وعمان، رغم أنّ وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، مؤخراً، أشار إلى أنّ الحكومة السورية لا تستحق العودة غير المشروطة إلى الجامعة العربية، وذلك بعد وقت قصير من إعلان الجامعة العربية عودة دمشق لشغل مقعدها الذي جُمّد عام 2011 نتيجة أحداث ما أطلق عليه “الربيع العربيّ”، عقب عرقلة أمريكيّة طويلة لمساعدة الشعب السوريّ، الذي تحمل الكثير من الخيبات والألم، ناهيك عن فشل قرار الكونغرس الأمريكي الذي كان بمثابة “صخرة أمام مساعدة سوريا”، واختص بجهود بعض الدول لإعادة ترميم وتطبيع العلاقة مع سوريا، إضافة إلى تصريحات للرئيس بايدن زعم فيها أنّ تصرفات نظام الرئيس الأسد لا تزال تشكل تهديدا “غير عاديّ” للأمن القومي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة، ما اعتبر استخداماً لسياسة وضع العصي في الدواليب من قبل الولايات المتحدة، وهذا ما يشكك بفاعلية أي مفاوضات مع الأمريكيين.
ملفات التفاوض بين الطرفين
في الوقت الذي تتقدم فيه قضية الصحفي الأمريكي “اوستن تايس” وخمسة أمريكيين آخرين اختفوا في ظروف غامضة ضمن الأراضي السورية منذ العام 2012 على اجندة المباحثات، ورغم أهمية هذا الملف بالنسبة للبيت الأبيض، الا انه المظلة الوحيدة التي تحتمي بها الإدارة الأمريكيّة امام الكونغرس لإدارة مفاوضات سياسية واسعة مع الحكومة السورية تشمل قضية ملفات حيوية، في المقابل ثمة ملفان مهمان على طاولة التفاوض مع الأمريكيين بالنسبة للطرف السوري، الأول انسحاب قوات الاحتلال الامريكية من الشرق السوري ومن الحدود السورية العراقية، وتحرير ابار النفط والغاز ومساحات من الأراضي الزراعية تمثل سلة غذاء للبلاد، وخاصة أنّ الولايات المتحدة ما زالت تسرق الثروات السورية عقب سنوات من الدمار والحصار وتتوجه بها إلى الأراضي العراقية عبر المعابر غير الشرعية لسوريا التي تعيش وضعاً اقتصاديّاً يصفه الناس بـ “المأساويّ”، وذلك في سياق اللعنة الأمريكيّة التي انصبت على هذا الشعب منذ سنوات طويلة ودمرت بلاده ونهبت خيراته وأدمت في قتل كل ما هو جميل فيه بالتعاون مع بعض الجهات الحكوميّة والإرهابيّة التي هي في الأساس صناعة أمريكيّة.
وبالاستناد إلى ذلك، يريد البيت الأبيض حرمان الشعب السوريّ من ثرواته ورزقه ومنع أيّ أحد من مساعدته ودعمه، في ظل مواصلة حصار جائر يفرضه الأمريكيّ وحلفاؤه وأدواته في المنطقة ضد هذا البلد، بعد أن تبنّت الإدارة سياسة الاحتلال شمال شرق سوريا، لتحقيق مشاريعها الهدامة في المنطقة، فيما تعتبر دمشق أنّ تلك السياسة تمثل أبشع أشكال النفاق، ويتجاهل أصحابها أنهم السبب الأساس في معاناة السوريين جراء دعمهم للإرهاب، وقد كذب الأمريكيون ولو صدقوا، لأنّ الغدر الأمريكيّ في شعوب المنطقة ليس جديداً والعراق أكبر الشهود، في ظل قيامهم بتجويع وزيادة مأساة الشعب السوري الذي يعيش أسوأ ظروف في تاريخه، وإنّ الأهداف الأمريكيّة واضحة للجميع، فعقلية الأمريكيّ لم تتغير يوماً، والرغبة الأمريكيّة بإسقاط الأنظمة المخالفة لها وتدمير البلدان وحصار الشعوب التي لا تخنع لإملاءاتها علنيّة، أم نسينا أنّ وواشنطن عملت كل ما بوسعها لإسقاط سوريا المقاومة من خلال دعم التنظيمات الإرهابيّة بشكل لا محدود بالتعاون مع دول معروفة، لهذا لم يتبق لديها سوى “إرهاب الحصار” وقوانينها الدمويّة المخادعة التي لم تتبن يوماً قراراً لمحاسبة الآلة العسكريّة للعصابات الصهيونيّة الفاشيّة في فلسطين.
والملف الثاني هو مسألة العقوبات المشددة المفروضة على الاقتصاد السوري في اطار “قانون قيصر”، فإلى اليوم، ما زالت الولايات المتحدة تسعى لمنع مشاركة الدول العربية في إعادة إعمار سوريا من خلال توسيع “قانون قيصر”، رغم كذبة الرئيس الأميركي جو بايدن حول تمديد ما تسمى “حالة الطوارئ” بشأن سوريا لمدة عام إضافي، وزعمه أنّ تصرفات “نظام الأسد” ما تزال تشكل تهديدا غير عاديّ للأمن القومي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة، وتقوم مجموعة من أعضاء الكونغرس الأمريكي بصياغة تشريع جديد يهدف إلى تعزيز قدرة الحكومة الأمريكية على فرض العقوبات، وتحذير الدول الأخرى من تطبيع العلاقات مع حكومة الرئيس السوري بشار الأسد، في ظل معارضة أمريكية لعودة سوريا إلى الجامعة العربية في الوقت الحالي، وتأكيد واشنطن أنّها لن تطبع علاقاتها مع الرئيس الأسد وأنها لا تدعم قيام حلفائها بخطوات في هذا الاتجاه، ولم يكن هذا مستغرباً من الدولة التي أصدرت قانوناً جديداً لمنع وعرقلة التطبيع مع سوريا، كي لا تظهر الإدارة الأمريكية كالخاسر في هذه الحرب التي لم تترك أخضر في البلاد، في ظل الوجود غير الشرعيّ للقوات الأمريكيّة في المنطقة الشرقيّة السوريّة والذي يركّز على “الفوائد الاقتصاديّة والتقسيم” بمزاعم دعم من تُطلق على نفسها “قوات سوريا الديمقراطية” التي يهيمن عليها بعض القياديين الأكراد الحالمين بدولة قوميّة ضمن الأراضي السوريّة.
ويعمد هذا القانون الجديد إلى معاقبة أي جهة أجنبية تقدم دعمًا ماليًا أو ماديًا أو تقنيًا للحكومة السورية، حيث ستتم معاقبة أي شخص يساعد الحكومة السورية في أي عقد غاز وكهرباء أو أي مصدر طاقة آخر غير مصرح به من قبل وزارة الخزانة الأمريكية، لذلك تُتهم الولايات المتحدة بغضها الطرف عن الوضع الإنسانيّ المقيت للشعب السوريّ ونهب ثرواته، والحفاظ على سياستها القذرة نتيجة معارضة سياسة الرئيس بشار الأسد، وقد عملت الولايات المتحدة على عرقلة مسار المساعدات الإنسانية الدولية المنقذة للحياة والتي تهدف إلى مساعدة ضحايا الزلزال حتى أجبرت على تعليق قانون قيصر شكليّاً، لكنّها لو قتلت كل أبناء هذا البلد بلمحة بصر لما تحرك لها ساكن كما يقول السوريون، حيث جاءت تلك اللعنة الأمريكيّة الجديدة بعد بيان للجامعة العربية الذي أفاد بأن وزراء الخارجية العرب تبنوا رسمياً -في اجتماعهم الأخير- قرارا ينص على عودة سوريا لشغل مقعدها بالجامعة، واستئناف مشاركة وفود الحكومة السورية باجتماعاتها، بعد غياب دام ما يقارب الـ12 عاماً.
أهداف أمريكيّة خبيثة
بشكل واضح، تسعى الإدارة الامريكية إلى انتزاع اثمان سياسية من الحكومة السورية في ملفات متعددة منها الوجود العسكري الإيرانيّ في سوريا، والدعم السوري للمقاومة في لبنان (حزب الله) وحركات المقاومة الفلسطينية، إضافة إلى الموقف السوري من التفاوض مع الكيان الغاصب للأراضي العربية وخاصة الجولان السوري المحتل، ومسألة الحل السياسي النهائي للحرب في سوريا ومسألة التحاور مع المعارضة السورية التي تدعمها بعض الدول وعلى رأسها واشنطن، وهذه القضايا كلها لم تقدم حولها سوريا والرئيس السوري بشار الأسد أيّ تنازلات عندما كانت الفصائل المسلحة والإرهابية المدعومة من الولايات المتحدة ودول أخرى على أبواب العاصمة السورية دمشق، فكيف يمكن ان تبدي الحكومة السورية مرونة في هذه الملفات اليوم بعد ان تغيرت الظروف العسكرية والسياسية بشكل تام!، وهذا ما يجعل سقف التوقعات بشأن الوصول الى نتائج عملية ضعيفاً للغاية.
ونعلم أن الولايات المتحدة لم تخف انزعاجها الكبير من عودة سوريا غير المشروطة إلى الجامعة العربية، وهذا أمر عاديّ للغاية من الدولة التي تعامت عن أرواح الأبرياء وبلائهم وقتلت ودمرت سوريا وشعبها وما زالت تسرق بوضح النهار قمحهم ونفطهم، وتدعم مشاريع التقسيم والإرهاب والتجويع، رغم الأوضاع المعيشيّة والاقتصاديّة الصعبة التي يعيشها السوريون والتي لا يمكن وصفها بكلمات بعد الزلزال المدمر، في وقت تفرض فيه واشنطن –صاحبة هراء حقوق الإنسان والديمقراطية- أشدّ العقوبات والحصار على السوريين والذي يذيقهم الويلات، فيما تنجو من ذلك المناطق التي يديرها عملاء واشنطن أي المناطق التي تقع خارج سيطرة الدولة السوريّة وبالأخص مناطق ما تُسمى “الإدارة الذاتية”، حيث تؤكّد دمشق كل مدّة أنّ ثرواتها تُسرق أمام الجميع وغالباً ما تتجه نحو الأراضي العراقيّة برفقة مدرعات عسكريّة تابعة لجيش الاحتلال الأمريكيّ.
لكن أمريكا –حسب تجربة شعوب منطقتنا- لا تهتم لشيء سوى مصالحها ولو على أطنان من رؤوس الأبرياء، وعلى ما يبدو فإنّ عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية في محاولات لإصلاح العلاقات من “قلب العروبة النابض” قد صفعت الأمريكيين وسياستهم الفوضويّة في العالم، وخاصة بعد انقطاع دام لسنوات، وبالتالي فإنّ عودة المياه إلى مجاريها مع دمشق أغضبت البيت الأبيض الذي لا يحترم سيادة الدول ولا القانون الإنسانيّ تحت كذبة حقوق الإنسان، بعد أن تحمل السوريون الكثير من المآسي في واحدة من أشد الحروب الدمويّة التي مرت في تاريخ البلاد والتي أطفأت شمعتها الحادية عشر منذ أشهر، لتحقق مؤامراتها في تدمير الدول التي تعتبر معادية لها وللكيان الصهيونيّ المجرم فتنهب خيراتها وتحاصر شعبها وتحاول القضاء على دورها، واستخدمت كل قوانينها “الإرهابيّة” لقتل ما تبقى من حياة في بعض الدول.
ومن الجدير بالذكر أنّ صحيفة “وول ستريت جورنال قد قالت إن واشنطن أعادت إحياء المحادثات مع سوريا بشأن مصير الصحفي الأمريكي الذي اختفى في عام 2012 وهو يحاول تغطية أحداث الحرب وهو جندي في المارينز، حيث تقول واشنطن انه تحول للعمل الصحفي وذهب الى سورية لتغطية الاحداث بشكل مستقل، وقد دخل تايس بصورة غير شرعية عبر الحدود، واختفى بعد مدة من عمله داخل البلاد وتقول واشطن انه اختفى في ريف دمشق، واعتبرت الصحيفة أنّ إدارة الرئيس بايدن أحيت المحادثات المباشرة مع الحكومة السورية لتحديد مصير تايس وبقية الأمريكيين الذي اختفوا في أثناء الحرب، وقد كررت سوريا في أكثر من مناسبة ان تايس غير موجود لديها، وهذا ما قاله الوفد السوري المفاوض في العاصمة العمانية مسقط، وتقوم سلطنة عمان بدور مهم في استمرار قناة التواصل بين دمشق وواشنطن وسط تكتم كامل من كل الأطراف المعنية وتجنب التصريح او الكشف عن مستوى التفاوض او الملفات التي يتم بحثها، وبغض النظر عن النتائج فان مجرد انطلاق المسار، يعطي دفعا للدول العربية لتطوير علاقتها مع سورية من دون كوابح أمريكية صارمة.
المصدر/ الوقت