مشيخات الخليج الفارسي والمواقف الخجولة تجاه قطاع غزة
خلال ذروة القومية العربية في الستينيات وأوائل السبعينيات تحت قيادة دول مثل مصر جمال عبد الناصر وحزب البعث في سوريا، احتل الاندماج بين الحركات والتيارات الوطنية مع قضية تحرير فلسطين ونضالات الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال، المساحة الأكبر في العالم العربي.
وحتى قضية فلسطين كانت حجر الزاوية في تشكيل الجامعة العربية عام 1945، وهي حقيقة تجلت مرات عديدة في الحروب التي دارت بين العرب والكيان الصهيوني.
لكن مع مرور الوقت، يتبين بوضوح أن القضية الفلسطينية اليوم لا تثير حساسية الحكومات العربية لمواجهة الاحتلال، بل لا تشکل حتی ذريعةً لوضع الخلافات جانباً وتوحيد صفوفها.
وفي هذا المجال، بالإضافة إلى دور متغيرات مهمة مثل توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر والكيان الصهيوني في عهد أنور السادات، ومن ثم اتفاقيات التسوية اللاحقة مثل اتفاقيات أوسلو بين زعيم منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك والکيان الإسرائيلي في عام 1993، هناك عنصر رئيسي آخر يتعلق بنقل مركزية وقيادة الجامعة العربية من مصر وسوريا، وإلى حد ما الجزائر وليبيا، إلى شيوخ الخليج الفارسي.
وفي الواقع تغيّر خطاب هذه الجامعة من القومية الثورية المناهضة للهيمنة والقومية المثالية إلى نهج محافظ ومتفاعل مع مصالح الغرب (قبول الهيمنة)، ونتيجةً لذلك شهدنا الحد الأدنی من الاهتمام بقضية نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال (الاعتراف بالكيان الصهيوني).
وقد تجلى المظهر الملموس لهذا التغيير الخطابي، في اقتراح مبادرة السلام العربية لعام 2002 التي قدمتها السعودية (وفي الواقع مجلس التعاون).
وقد جاء هذا الاقتراح على حساب الاعتراف باحتلال الکيان الإسرائيلي لجزء كبير من الأراضي الفلسطينية، وإضفاء الشرعية على وجود “دولة إسرائيل”.
ومنذ ذلك الحين، على الرغم من أن الصهاينة لم يفوا بأي من التزاماتهم، وقاموا تدريجياً باحتلال الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية بمستوطناتهم غير القانونية، لكن هذا الاقتراح ظل عنوان السياسة الأساسية للجامعة العربية في أزمة المعاناة التي لا نهاية لها للشعب الفلسطيني.
إن النهج المحافظ الذي اتبعته جامعة الدول العربية خلال قيادة شيوخ الخليج الفارسي، أدى في الواقع إلى تقليل الأهمية الاستراتيجية للقضية الفلسطينية في العالم العربي.
ومنذ ثورات الربيع العربي وظهور الصراعات في سوريا واليمن وليبيا، أدى الانشغال بالمنافسات الجيوسياسية والصراعات بالوكالة بين القوى الإقليمية، إلى مزيد من ابتعاد الجامعة العربية عن القضية الفلسطينية.
وخلال هذه الفترة، وحتى في أوقات عديدة، اعتمدت الجامعة العربية مناهج تتماشى مع مصالح الکيان الصهيوني في التطورات الإقليمية، كوسيلة ضغط للحكومات الخليجية.
على سبيل المثال، وبسبب إصرار السعودية، أعلنت هذه الجامعة حزب الله اللبناني جماعةً إرهابيةً في عام 2016، وهو القرار الذي اعتبر علامةً واضحةً على تشابك المصالح الإقليمية مع الکيان الصهيوني.
في الماضي، کانت الدول العربية تتنافس فيما بينها لدعم قضية فلسطين، لكن سياسات الدول الخليجية حاولت القضاء علی هذا التعطش التنافسي إلى أقصى الحدود، وتحويل القضية الفلسطينية إلى قضية هامشية من الدرجة الثانية والثالثة تحت ستار شعارات مثل إحلال السلام والاستقرار الإقليميين، وربط التقدم الاقتصادي بمسألة تطبيع العلاقات مع الکيان الصهيوني.
ويأتي هذا النهج السلبي والمعادي للفلسطينيين، والذي ظهر بشکل قوي في حرب غزة الأخيرة أيضاً في مواقف معظم الدول العربية، وخاصةً الخليجية، في وضع أثبتت فيه استطلاعات الرأي المختلفة مراراً وتكراراً أن وجهة نظر الناس في هذه البلدان تختلف تماماً عن سياسات الحكومات، وتؤيد بالكامل نضالات الشعب الفلسطيني وترفض العلاقات العلنية والخفية مع الکيان الصهيوني.
لكن للأسف، في غياب الأحزاب السياسية القوية في المجتمع المدني، والبنية الاستبدادية أو شبه الديمقراطية لهذه البلدان، فإن آراء الناس ليس لها تأثير كبير على عملية صنع القرار لدى القادة.
وأظهر استطلاع أجراه “مؤشر الرأي العربي” عامي 2017-2018، تأييداً قوياً للقضية الفلسطينية بين العرب. في هذا الاستطلاع، يعتقد 77% من المشاركين أن فلسطين للفلسطينيين، و87% ضد التطبيع مع الکيان الإسرائيلي.
كما شارك في استطلاع آخر أجراه معهد “الشباب العربي” في سبتمبر 2023، 3600 مواطن عربي تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً في 53 مدينة من إجمالي 18 دولة عربية، رأى 61% منهم أن القضية الفلسطينية تحظى بالأولوية.
ولكن على الرغم من وجود قيود جدية على التجمعات الاحتجاجية في الدول الخليجية، وعلى سبيل المثال في دولة مثل السعودية، فإن أي مظاهرة أو تجمع احتجاجي نصرةً لفلسطين محظور، بل ويعتبر عداوةً لله، وبحسب نشطاء اجتماعيين سعوديين فإن الحكومة وجهت تحذيراً للأهالي في الأيام القليلة الماضية من أي تجمع في مدينة القطيف، يمكننا أن نشهد عقد تجمعات عامة مختلفة في هذه البلدان خلال الأسابيع الماضية.
لكن في النهاية، يبدو أنه لا الاستياء الشعبي المتصاعد من سياسات رجال الدولة، ولا حتى الوضع الكارثي الذي يعيشه الفلسطينيون في السنوات الأخيرة والحرب الحالية، قادران على إحداث تغييرات كبيرة في السياسة البراغماتية للدول الخليجية تجاه قضية فلسطين و”إسرائيل”، وحتى مسألة تطبيع العلاقات مع الصهاينة. وهي حقيقة يمكن رؤيتها في الاحتفالات السعودية في أعقاب طوفان الأقصی.
المصدر/ الوقت