التحديث الاخير بتاريخ|الثلاثاء, نوفمبر 19, 2024

الغزو الجديد لمصر السيسي 

عبير صلاح –

لم تعرف العزيزة مصر استقلالاً حقيقياً على مدى تاريخها منذ العصر الفرعوني، فقد عاش الشعب المصري تاريخه كله يخرج من احتلال إلى احتلال، ومن غزو إلى غزو.

على الرغم من انتهاء الحروب والتواجد المباشر لقوات احتلال عسكري داخل الأراضي المصرية منذ توقيع معاهدة السلام مع الكيان المدعو “اسرائيل”؛ برعاية أميركية صهيونية، إلا أن مصر لم تتمكن من الحصول على استقلال حقيقي، ولم تكن أبداً بعيدة عن التدخلات الأجنبية، فقط كانت منذ ذلك التاريخ وحتى وقتنا الحالي على شفا حفرة من احتلال جديد بمعناه الحقيقي، إلى جانب الاحتلال المعنوى الذي عانت منه طوال فترة حكم المخلوع مبارك.

لا يختلف اثنان كون أميركا تسعى للسيطرة على العالم بحجة تحقيق السلام العالمي ونشر الديموقراطية التي هي السبيل الأوحد من وجهة نظرها لتحقيق هذا السلام.

لم تغفل أميركا يوماً واحداً عن أهمية مصر الجغرافية والسكانية، فمصر بالنسبة لأميركا هي الهدية الكبرى التي طالما حلمت بالحصول عليها، كما أنها تعلم جدياً أن سقوط مصر بأيديها يعني السيطرة على المنطقة العربية وشمال أفريقيا، وهي لم ولن تتنازل عن هذا الحلم مهما كلفها الأمر.

لقد نجحت أميركا بإقناع السادات الانضمام إلى المحور الغربي، بعد فترة تحالف كبيرة قضاها جمال عبد الناصر مع السوفيت، واستطاعت أن تضع اللبنة الأولى لسيطرتها على مصر من خلال المساعدات العسكرية الضخمة التي كانت تقدمها لمصر كمكافئة لها على ابرامها لمعاهدة السلام.

راهنت أميركا كثيراً في فترة السادات ومبارك على العداء العربي الإسرائيلي وبالتحديد تهديد “اسرائيل” المستمر لمصر، وحاولت استغلال هذا السلاح في السيطرة على مصر وتوجيهها حيثما شاءت.

مع مرور الزمن وحدوث الاستقرار النسبي في المنطقة وتحييد مصر وخروجها من معادلة العداء ضد “اسرائيل”، والأهم من ذلك انفجار قنبلة الثورة الإسلامية في إيران وإعلانها “اسرائيل” عدوتها الكبرى والقضية الفلسطينية قضيتها الأساسية، بدأت أميركا تشعر بأن سلاح المساعدات العسكرية لم يعد هو الورقة الرابحة التي يمكن اللعب بها، فمصر و”اسرائيل” لم يعد كلاهما يمثل أولوية للآخر كعدو، بل استقرت الأمور بينهما على أن يبقى الأمر على ما هو عليه، لتتحول إيران وحركات المقاومة إلى العدو الأوحد للكيان الإسرائيلي.

سريعاً ما أدركت أميركا هذا الأمر واتخذت منحى آخر في سياساتها تجاه مصر، لضمان سيطرتها على هذا الكنز في المستقبل، فبدأت تضخ الأموال لما يعرف بمؤسسات المجتمع المدني ومؤسسات الدفاع عن حقوق الإنسان، وحاولت أن تنتج بأموالها كوادر شابة داخل المجتمع المصري يدينون لها فكرياً وأيديولوجياً، ويروجون لها كحامية ومدافعة عن الديموقراطية وحقوق الإنسان، لتضمن بذلك تواجداً معنوياً في عقول المصريين يمهد لغزوها المرتقب الذي لن تتنازل عنه.

لم تكن مهمة أميركا بالسهلة، فمن ناحية قضت أميركا سنوات طويلة في دعم نظام حسني مبارك والجيش المصري، حتى استطاع الرجل تكوين امبراطورية أمنية أصبحت دولة داخل الدولة، وأصبح لديه من المصالح الخاصة والنفوذ ما يجعله يدافع عن امبراطوريته بكل ما لديه من قوة.

لقد شاهدنا في السنوات الأخيرة من حكم مبارك قواعد جديدة لللعب مع الأميركان، فمن ناحية فهم مبارك ما تسعى أليه واشنطن من وراء ضخ الأموال ومحاولة السيطرة على المجتمع المدني لصالحها، فاستفاد من نظامه الأمني والمخابراتي في قمع كل من سولت له نفسه السير في هذا الطريق، وذلك من منطلق الصراع من أجل البقاء، لنجد أميركا وقد استخدمت نفس السلاح ضده محاولة فضح نظامه -الذي تربى على يديها- أمام الشعب، وبدأت الحملات ضد النظام المصري تشتد، لنجد الحديث عن فساد النظام ينتشر في كل مكان فجأة وكأن هذا الفساد كان وليد عشية وضحاها، وثار الشعب ضد رجل الأميركان في مصر، ولم يكن يعرف أنه ضحية للعبة لن تنتهي بهذه السرعة.

استمرت أميركا في لعبتها وحاولت فرض نفسها من جديد على الساحة المصرية من خلال النخب التي تربت على يديها، لكنها صدمت عندما وجدت هذه النخب بكل ما أنفقته عليهم من أموال لا يمتلكون أي ثقل ولا يمثلون أي تواجد حقيقي على الساحة المصرية، وكان عليها أن تحتوي الموقف مهما كلفها الأمر، فمصر لا ينبغي أن تفلت من يدها.

لم تجد أميركا في ذلك الوقت سوى الإخوان للرهان عليهم، فعلى الرغم من اتجاهات الإخوان الدينية التي تخالف علمانيتهم الصارخة، إلا أن ذلك كان الحل الوحيد أمامهم لضمان التواجد على الساحة المصرية لحين ظهور حلول أخرى.

استغلت أميركا نهم الإخوان للسلطة وقدمت لهم الوعود بالوقوف إلى جانبهم مقابل التعهد مبدئياً بعدم تغيير السياسة المصرية تجاه “اسرائيل”، وذلك للحفاظ على مكتسبات السنين الطويلة الماضية، لكن المفاجأة الكبرى التي لم يتوقعها الأميركان أنفسهم حدثت بعد أسابيع قليلة من وصول الإخوان للحكم، فسرعان ما أعلن المعزول مرسي اعترافه الكامل والمطلق بـ “إسرائيل” وفضح أمر الخطاب المهين الذي وصف فيه اسرائيل بالدولة الصديقة وتمنى لها التقدم والازدهار.

لقد وجدت أميركا في الإخوان دمية ضعيفة تستطيع تحريكها واللعب بها كيفما شاءت، فشعرت أنها تسير على الطريق الصحيح وقررت الرهان عليهم بكل ما لديها من قوة.

لكن الأمر لم ينته عند ذلك الحد، إذ أن هناك بقايا دولة عميقة تفحلت على مدار سنوات، وهناك نخبة اعتادت أن تأكل من وراء الحديث في السياسة والظهور الإعلامي ولم يكن من السهل ازاحة البساط من تحت أرجلهم بهذه الطريقة المهينة وكأن مهمتهم قد انتهت إلى هذا الحد وأن عليهم قضاء البقية الباقية من حياتهم في بيوتهم.

إضافة إلى ذلك، جاءت صدمة هذا الشعب المسكين عندما بدأ يرى المسؤولين الجدد على شاشات التلفاز وفي المحافل الدولية. لقد شعر المصريون بخيبة أمل حقيقية من مستوى الجهل الذي كان يعاني منه نخب الإخوان. لم يستطع المصريون تحمل المهزلة التي ترأسها مرسي كرئيس لجمهورية مصر العربية بكل ما لها من تاريخ وحضارة.

لم يكن مرسي ولا أعوانه من الإخوان على قدر المسؤولية، فكلما كان يذهب مرسي إلى مكان في الداخل أو الخارج، كان الشئ الوحيد الذي يكتسبه هو مزيد من السخرية، وتحول الرجل من رئيس جمهورية يفترض احترامه من قبل شعبه إلى مهرج لا يجد فيه شعبه سوى متعة مشاهدته على شاشة برنامج الإعلامي الساخر “باسم يوسف”.

بعد هذه التجربة المرة، وجد الشعب في السيسي الأمل الوحيد للتخلص من هذه المهزلة، فلم تعد الأولوية للحرية، ولا الديموقراطية ولا أي شيء آخر سوى التخلص من هذا الكابوس المزمن الذي عانى منه المصريين لمدة عام.

لقد التف المصريون حول السيسي التفافاً حقيقياً ووجدت أميركا نفسها في نفس المأزق من جديد، فكلما راهنت على ورقة مصرية ضاعت منها. لقد أصيب بالحيرة بعدما وصل السيسي إلى الحكم، فكيف لها أن تلعب مع هذا الرجل وما يتمتع به من شعبية، خصوصاً وأنها لم تعترف به بالشكل الذي يجعل السيسي يثق بها ويفتح لها الباب على مصر كما كان مفتوحاً لها في السابق.

بدا السيسي منذ اللحظة الأولى حاسماً عندما أعلنها صريحة أنه لا يدين لأحد في الداخل ولا في الخارج، وأن مسؤوليته الحقيقية هي فقط تجاه الشعب المصري.

وضع السيسي نقطة النهاية لسياسات الماضي بكل ما تحمله هذه السياسات من صداقات وعداءات، وجعل سياسات مصر المستقبلية وتحالفاتها القادمة مبنية على مبدأ المصلحة البحتة، فلا حديث عن السياسة والشعب على وشك الموت من الجوع، لا حديث عن حرية والشعب لا يملك ما يستر به عوراته.

لقد جاءت التسريبات التي نشرت عن رأيه في دول الخليج (الفارسي) مؤكدة هذا الأمر، فوقوف مصر إلى جانب دول الخليج (الفارسي) لن يكون من منطلق العروبة ولا الدين المشترك ولا كل هذه الشعارات التي تعتبر رفاهية بالنسبة له ولوضع شعبه.

هذه هي الرسالة الواضحة! إن كنت تبحث عن مكان لك في مصر المستقبل عليك بدفع النقود. إن هذا الشعب يجب أولاً أن يقوم من على فراش الموت، دون أي شروط ودون أي تعهدات وبعدها يقرر ماذا يريد أن يفعل.

استطاع السيسي أن يفرض واقع جديد على المنطقة وأصبح التنافس على خلق نفوذ داخل مصر يتمثل في طريق وحيد وهو تقديم الأموال في شكل استثمارات ومساعدات، فقط لضمان التواجد في المرحلة الراهنة.

السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل لدى السيسي رؤية حقيقية لوضع مصر المستقبل؟!

إن اللعبة لا يمكن أن تنتهي عند هذا الحد، فمن يضع دولاراً واحداً في بلد أخر، لا يفعل ذلك من منطلق الحب أو المساعدة، بل هو استثمار للمستقبل، ومن يقرر أن يضع مليارات الدولارات فهو بالتأكيد لن يسمح بضياع استثماراته تحت أي مسمى.

لا شك أن السيسي رجل قوى وجريء، لكن إن لم يكن هناك رؤية حقيقية للمستقبل، فستتحول مصر في المستقبل لمنطقة صراع من جديد، ولن يكون الغزو القادم غزو دولة واحدة، بل سينهال عليها الغزاة من كل حدب وصوب، والذريعة واضحة، الدفاع عن مصالحهم الاقتصادية، ولا يملك أحد أن يعترض، فالجميع سيكون لهم مصالح، ومن يعترض عليه أن يتنازل وحده عن مصالحه.

طباعة الخبر طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق ارسال الخبر الى صديق

اضافة تعليق