الحرب الإلكترونية، مظهر من مظاهر عرض القوة، بين روسيا وأمريكا
يبدو أن العام ٢٠١٥، سيكون عاماً مختلفاً عن نظيره من أعوام القرن. فكل الصراعات مستمرة تقريباً مثل المعركة مع الإرهاب، والتي تختلف فيها الأطراف السياسية بين صادقٍ بعقليته الرافضة للإرهاب، وبين أطراف ينافقون حسب الزمان والمكان. لكن الأمر الحتمي هو أن الجميع متفقون على أنهم في عالمٍ تديره الصراعات العديدة. فإلى جانب الحرب على الإرهاب، توجد مسألة الأزمات السياسية التي تأخذ طابعاً وجودياً، كالأزمة بين روسيا والغرب بشأن أوكرانيا، وأيضاً مكافحة الأمراض والفيروسات كالإيبولا، بل قد تنفجر أزمات أخرى دون سابق إنذار. وهو الأمر الذي يجعل الدول لا سيما الكبرى تسعى لمحاولة التجسس على الدول الأخرى من أجل استباق الأحداث، وجمع المعلومات. وهنا يأتي الحديث عما يسمى بالحرب الإلكترونية، والتي تعد من مظاهر الحرب الناعمة. فماذا فيما يتعلق بهذه الحرب، والتي كان الهجوم الإلكتروني الروسي على وزارة الخارجية الامريكية، آخر تجلياتها؟ وكيف يمكن تحليل الأسباب والنتائج؟
أولاً: الهجوم الإلكتروني الأخير على وزارة الخارجية الأمريكية: نموذج لأوجه الصراع الجديد
صرحت مؤخراً مصادر أمنية أمريكية لشبكة CNN ، أن قراصنة من روسيا يُعتقد أنهم يعملون لصالح الحكومة في موسكو، يقفون خلف عمليات الإنتهاك الأمني التي طالت مرافق وزارة الخارجية الأمريكية خلال الأشهر القليلة الماضية، بعدما تمكنوا من اختراق النظم الأمنية لأجهزة الكمبيوتر في البيت الأبيض. وأكد المسؤولون، الذين رفضوا ذكر أسمائهم، أن عملية الإختراق أصابت أنظمة غير مدرجة ضمن دائرة السرية، لكنها تحتوي على معلومات توصف بالحساسة على المستوى الأمني، مثل المعلومات المتعلقة ببرنامج تحركات الرئيس باراك أوباما غير العلنية .
وأشار المسؤولون، إلى أن الإختراقات التي تعرضت لها أنظمة وزارة الخارجية الأمريكية كانت كبيرة للغاية، واقتحم القراصنة النظام رغم الجهود المبذولة لطردهم منه، ووصف أحد المسؤولين هذا الوضع بقوله “إن أنظمة الكمبيوتر الخاصة بوزارة الخارجية الأمريكية كانت تحت ملكية القراصنة الروس لأشهر عديدة”، حسب تعبيره. فيما أكدت مصادر مسؤولة في FBI أن القراصنة حاولوا تشتيت جهود رجال الأمن، من خلال التسلل عبر شبكات خاصة وحسابات من حول العالم، لكن الآثار الإلكترونية التي تركوها عقب جريمتهم سمحت للمحققين الأمريكيين بالتعرف على هويتهم، وترجيح عملهم لصالح الحكومة الروسية .
وقد كان ملفتاً أنه لم تقدم الخارجية الأمريكية أو السفارة الروسية في واشنطن حتى الآن على أي تعليقات على التقرير، لكن المحققون الأمريكيون أكدوا لـCNN أن عملية القرصنة الأخيرة تعد الهجوم الإلكتروني الأكبر والأكثر تعقيدا في تاريخ الحكومة الأمريكية .
ثانياً:قراءة تحليلية متعلقة بالأسباب والمستقبل، لهذه الحرب :
لعل ما يسمى بتنامي الغضب بشأن التفاوت المتزايد في الثروة، هو السبب الأساسي للحروب بين الدول عادةً. ومهما حاولت الدول الكبرى الحديث عن أسبابٍ تتعلق بالديمقراطية وحقوق الإنسان ومساعدة الشعوب، فكل ذلك يصب في خانة المبررات التي لا أهمية لها، سوى للتسويق لتلك الحروب وإيجادٍ واقعٍ يحتضنها كأسباب. وهنا تتنوع الأسباب من تحول عالمي للقوة الى تقنيات جديدة للصراع. فالتقارير العالمية التي تتحدث عن مؤشرات السلام في العالم، تؤكد تراجع السلام العالمي للعام السابع على التوالي، منذ ٢٠٠٧ بعد تحسن على مدى عقود. والسبب الحقيقي في ذلك هو أن الصراعات اليوم تأخذ طابعاً لا يمكن تخبئته، بسبب وضوح الأهداف لدى الجميع وتقدم وعي الشعوب التي لم تعد تصدق أن هم الدول الكبرى الغربية هو تحقيق السلام. فالدول التي تدير صراعات العالم اليوم، تعاني من انتكاسةٍ في الهيبة، وضعفاً في القدرة على التمويل بسبب الوضع الإقتصادي المتراجع عالمياً. وهو الأمر الذي يجعل الجميع يبحثون عن طريقة بديلة للحروب. لذلك تعتبر الحرب الإلكترونية أداةً لحربٍ تعتمد تكنولوجيا المعلومات والكمبيوتر، لقرصنة معلومات العدو وإختراقها. وهي حربٌ قد تكون جديدة من حيث الأسلوب والتقنيات .
وهنا تجدر الإشارة الى أن أعداد ضحايا الإرهاب العالمي يتجاوز ٦٠% في العامين الأخيرين. في الوقت الذي تتراجع فيه قدرة الغرب على الرد العسكري، وتنخفض ميزانية واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون الدفاعية. الأمر الذي يجعل الصراعات تأخذ طابعاً أقل كلفة، وثمن. وهو ما تتميز به الحرب الإلكترونية. فاليوم أصبحت الدول تراهن على خلق الأزمات لدى بعضها والآخرين من أجل إخضاعهم. وهو الأمر الذي تراهن عليه أمريكا من خلال الأزمة الإقتصادية في روسيا، لعل هذه الأزمة بحسب تمنياتهم، تحد من طموحات الرئيس فلاديمير بوتين، الرجل الذي لا يمكن التنبؤ بتصرفاته. فالدول اليوم ولأنها لم تعد تستطيع الهجوم، تحاول الدفاع، ولذلك يأخذ الصراع العالمي المسبب للحروب، طابعاً تقوم الدول فيه على تقاسم الجغرافيا، وإرضاء بعضها. والدولة الأقوى هي الدولة المؤثرة أكثر في الصراع .
فالصين تسعى إلى زيادة قدرتها العسكرية، وتقول إن لها الحق في السيادة على معظم بحر الصين الجنوبي الذي يعتقد أنه غني بالنفط والغاز. وتقول دول بروناي وماليزيا والفلبين وفيتنام وتايوان إن لها أيضا حقوق في السيادة عليه، ولذلك أدى الخلاف على سلسلة من الجزر تقول كل من الصين واليابان إن لها الحق في السيادة عليها إلى توتر العلاقات بين البلدين بشدة. وهنا يرى المحللون أن حالة الإنهاك التي يواجهها الغرب، تعني أن اندلاع مواجهة في جزء من العالم، يمكن أن يشجع خصوماً محتملين في أماكن أخرى على السعي لتحقيق مكاسب وربما يكون هذا أحد العوامل وراء الثقة المتزايدة التي تبديها مثلاً كوريا الشمالية .
ويصب في السياق نفسه، أن واشنطن كانت قد اتهمت بيونج يانج بشن هجوم إلكتروني على شركة سوني بيكتشرز للإنتاج السينمائي بعد أن أنتجت فيلما تدور أحداثه حول قصة خيالية عن اغتيال الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون. ورفضت كوريا الشمالية هذا الإتهام. لكن الهجوم الإلكتروني الأخير، والذي يعتبر جزءاً من الحرب الضروس بين روسيا وأمريكا، يؤكد توجه الدول لهذا النوع من الحروب، عندما لا تستطيع شن حربٍ عسكرية. وهو ما يعني استعداد الجميع لإختيار الحرب الإلكترونية كبديلٍ عن الحرب العسكرية. أو كورقةٍ للإبتزاز، أو كأسلوبٍ للتجسس .
إذاً تسعى الدول للسيطرة والنفوذ. والجميع يستخدم ما يراه مناسباً دون مبادئ أو قيم. فالهدف هو السيطرة وزيادة النفوذ. ولعل الحرب الإلكترونية ستطغى على الحروب الأخرى في العام الجاري، كأسلوبٍ للحرب الناعمة. مما ينبؤ بمزيدٍ من الهجمات الإلكترنية. وهنا يأتي السؤال التالي: من سيكون سيد هذه الحروب؟ وهل سيتطور استخدامها، ليشمل أساليب وأهدافاً جديدة؟ الأيام المقبلة وحدها هي التي ستجيب .
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق