جشع تجارة الزراعة الأمريكية المعدلة جينيا والتهديدات المستقبلية
تروج شركات احتكارية عابرة للقارات، مثل “مونسانتو” و”نوفارتيس”، بذورا ومنتجات غذائية معدلة وراثيا، لغايات الربح بالدرجة الأولى. وفي ذات الوقت، يسوق مسؤولو مكاتب الإعلانات في هذه الشركات ادعاءاتهم للمستهلكين، والقائلة بأن الغذاء المعدل وراثيا أكثر إفادة صحيا، ويساهم في توفير الاستقرار في القطاع الزراعي بفضل تطوير نباتات مقاومة للأمراض. وتكمن مخاوف مناهضي المحاصيل المعدلة وراثيا، في عدم القدرة على توقع العواقب المستقبلية لهذه التكنولوجيا التي لا تزال في طور التجربة والتطوير الأولي.
وتؤثر قدرة هذه التكنولوجيا على إعادة تنظيم وبرمجة المادة الوراثية، بواسطة عملية إدخال عشوائية لمورثات حيوانية أو حتى بشرية إلى داخل الكروموسومات النباتية، الأسماك، الحيوانات، أي ستؤثر إلى الأبد على سلالات الأنواع المختلفة بواسطة الوراثة. ولأول مرة في التاريخ، تتعامل شركات التكنولوجيا الحيوية في العالم مع الهندسة الوراثية باعتبارها ملكية خاصة لتلك الشركات.
ويعتبر التعديل الوراثي أحد مكونات التقانة أو التكنولوجيا الحيوية، وهو عبارة عن إدخال مُوَرِّثَة أو عدة مُوَرِّثات/جينات (مقطع من DNA محدد الموقع على الكروموسوم) مأخوذة من كائن حي (نبات، أشجار، أسماك، حيوانات، إنسان، كائنات دقيقة (إلى كائن حي آخر بطرق صناعية. وتهدف هذه العملية إلى إكساب الكائن الذي أدخلت إليه المورثة، صفة جديدة لم تكن موجودة فيه من قبل.
وهناك العامل السمي الذي قد تحويه المنتجات المعدلة وراثيا، لدرجة تشكيلها تهديدا جديا على حياة الإنسان، ولا بد هنا من التذكير بأن عدم القدرة على توقع عواقب الأغذية المعدلة وراثيا، وغياب الرقابة عليها تسببا في عام ١٩٨٩ في تسمم جماعي في أمريكا لأناس تناولوا مكملات غذائية معدلة وراثيا أنتجتها أكبر ثالث شركة كيماويات في اليابان. وادعت الشركة في حينها، بأن الجراثيم تلوثت أثناء عملية التعديل الوراثي. وقد تسبب التلوث آنذاك، في مقتل ٣٧ أمريكيا، وشلل دائم لـِ١٥٠٠ فرد، كما أن ٥٠٠٠ شخص أصيبوا بمرض عصبي نادر يعرف بـِ EMS ، وعلى أثر ذلك فقط، منعت وزارة الصحة الأمريكية تسويق المنتج.
ويشير أحد الأبحاث الذي أجراه المركز العضوي في أمريكا، إلى أن التعديل الوراثي للمحاصيل الزراعية أدى إلى زيادة استعمال المبيدات الكيماوية المضادة للآفات بمقدار ١٧٤.٩١ مليون كيلوغرام خلال أول ١٣ سنة من الزراعة التجارية، على خلاف ما ادعي أنها تساهم في تقليلها.
لذا فإن مزيدا من الاستثمارات في هذه التكنولوجيا، سوف يزيد حتما من التحكم الاحتكاري للشركات في غذاء العالم ويفرض على الدول الفقيرة قوانين براءات الاختراع الخاصة بكبرى الشركات الاحتكارية ويلزمها بمعاهدات وأنظمة تجارية تضعف من قدراتها الداخلية على مكافحة المجاعة. ويدور حاليا جدل علمي عالمي يهدف إلى التحذير من خطر التآكل الوراثي، والمفارقة هنا أنه مع قدوم الهندسة الوراثية فإن تهديدات التآكل قد ازدادت.
أما على الصعيد الدولي، فتضع بعض الدول ضوابط تفرض بوضع إشارات واضحة على المنتجات المعدلة وراثيا، أو تمنع إنتاجها أصلا، أو تفرض قيوداً جدية على إنتاجها، بسبب عدم ثبوت أمانها بعد. ومن بين هذه الدول: مجموعة الاتحاد الأوروبي، أستراليا واليابان. وفي المقابل، لا يستطيع مواطنو العديد من الدول الأخرى، بما في ذلك الضفة الغربية وقطاع غزة، معرفة ما إذا كان الغذاء الذي يتناولونه يحوي مكونات معدلة وراثيا أم لا .
وفعليا فقد تم منذ أمد بعيد بطلان ادعاء أن الهندسة الوراثية للأغذية ضرورية لإطعام العالم. ومع أن حصة الفرد من الإنتاج الغذائي العالمي تعد أعلى من أي وقت مضى، إلا أن المجاعة قد تفاقمت في العالم، الأمر الذي يؤكد أن التوزيع العادل وضمان حصول الناس على الغذاء يعدان أكثر أهمية من التكنولوجيا. إذن، فالمشكلة لا تكمن في عدم كفاية الإنتاج الغذائي العالمي، لأن العالم ينتج كميات كبيرة من الطعام أكثر من حاجته، لكن المشكلة تكمن في أن الجياع والفقراء في “العالم الثالث” لا يملكون الأموال اللازمة لشراء أو زراعة حاجتهم من الغذاء، بمعنى أن الكميات الزراعية لا تشكل إطلاقا حلا للمشكلة.
وفي الحقيقة، إن ادعاء ملكية الشركات الفكرية هو قرصنة بيولوجية تقوم بها تلك الشركات، لأن الموارد الوراثية التي تسعى الشركات إلى احتكارها تحت مسمّى “الاختراع المسجل” هي حصيلة جهود المزارعين الجماعية لتحسين وإعادة إنتاج البذور عبر آلاف السنين.
إحصائيا تملك شركة أمريكية احتكارية هي شركة “مونسانتو”، أكثر من ٩٠% من سوق تكنولوجيا البذور المعدلة وراثيا في العالم، والباقي تملكه أربع شركات أخرى. وهذا يمثل، بشكل غير مسبوق، تبعية المزارعين للشركات الزراعية الاحتكارية العالمية التي تتحكم بغذاء العالم، أي بعبارة أخري التبعية للسياسة الأمريكية.
ومنذ عام ٢٠١٣ حتى اليوم خرج الآلاف من المتظاهرين المحتجين ضد إنتاج الأغذية المعدلة وراثيا من قبل الشركات الأمريكية، خاصة ضد شركة مونسانتو، كما سبق وخرجت في حزيران ٢٠١٣ احتجاجات ضد اجراءات الشركة شارك فيها أكثر من مليوني شخص في ٤٣٦ مدينة حول العالم. وجلبت احتجاجات العام الماضي عدداً مماثلاً تقريبا من المتظاهرين. وكان قد أدى ما أنتج من البرتقال الأمريكي من قبل الشركة المذكورة، بتكليف من وزارة الدفاع الأمريكية، بعد انتهاء الحرب في أفغانستان، إلي وفاة ما يقرب من ٤٠٠ ألف وولادة ٥٠٠ ألف طفلا مشوها. لكن فشلت الدراسات العلمية في تحديد وجود صلة بين المواد الكيميائية في المبيدات الزراعية لمونسانتو ومرض الشلل الرعاش والزهايمر والسرطان.
وعلى الرغم من ارتفاع عدد العلماء الذين يحذرون من صعوبة التنبؤ بعواقب تقنيات التهجين الوراثي، إلا أن الحكومة الأمريكية وسلطاتها القانونية تحاول الحفاظ على مصالحها بادعائها بأن الأغذية التي تحوي مكونات معدلة وراثيا لا تختلف جوهريا عن الأغذية العادية، لذا، فإنها لا تحتاج إلى ملصق خاص، كما لا تحتاج إلى فحوصات الأمان . وتعد الزراعة الوراثية لأمريكا بمثابة المورد الإقتصادي الثاني لها بعد تجارة السلاح وأحد أهم أسباب قوتها الإقتصادية التي تمكنها من الإستمرار في فرض هيمنتها على العالم بشكل عام وعلى الدول الفقيرة بشكل خاص، والتحكم بالسياسة المصرية باستخدام سلاح القمح خير دليل على ذلك، في الوقت الذي تستطيع فيه مصر والسودان انتاج أكثر مما يكفي العالم العربي بأكمله من القمح غير المعدل وراثيا، وحتي دول الإتحاد الأوروبي لا تسمح لها أمريكا بمنافستها في هذا المجال رغم امتلاكها الخبرة العلمية والقدرات اللازمة لهذه التكنولوجيا، ويبدو أن قرار رفض المنتجات الأمريكية يحتاج لإرادة قوية واكتفاء ذاتي من الناحية الغذائية ناهيك عن النية برفض الوقوع تحت الهيمنة الأمريكية.
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق