التحديث الاخير بتاريخ|الجمعة, نوفمبر 22, 2024

تعثر البحث الأكاديمي 

بغداد ( الرأي )

التناوب الشاذ هو خضوع الدراسات الأكاديمية إلى مراقبة سياسية دورية تمنع تجديد المناهج وابتكار دراسات علمية مفيدة من خلال دمج التنوع بالقوة في نوع واحد، وتحويل فرضيات ملفقة إلى حقائق، لا يمكن حذف أية خصيصة مهما كانت صغيرة للوحدات الاجتماعية التي تبدو متباينة التجانس، الزي واللهجة والعادات البيتيةوالاستعراضات الدينية، والارتباط بمهن محددة و”اتكيت العلاقات”، والنظرة إلى الآخر المختلف كلها تمدنا بنمطين من الثقافة.. نمط منفتح ونمط منغلق، وفي إطار الوحدة العراقية (الوطنية)، يتحول التنوع الثقافي سواء الإيجابي (ثقافة الانفتاح) أو السلبي (ثقافة الانغلاق) الى تجاور ثم احتكاك ثم تفاعل، وهذا ما نسميه ثقافة غنية، قوية، متقدمة، كلما رفعنا يدنا عن قهر التنوع الاجتماعي تحققت فكرة (التعدد قوة وليس ضعفا) وفي ظل إطار قومي انتقائي أو إطار ديني انتقائي دائماً تتغلب ثقافة الانغلاق، فينحسر التنوع وتجف خصوبة البلد في الفكر والمعرفة والأدب والفن.
وأنا ممن يؤمنون أن العراق منذ تأسيسه الرسمي في العشرينيات وقع تحت ثقل الثقافة المنغلقة بسبب سيطرة الفكر القومي العربي المسلح” الضباط القوميين، حركة القوميين العرب، الحزب العربي الاشتراكي، حزب البعث الخ” ما فرض ثقافة انتقائية حبست البحث الأكاديمي بين خطوط حمر فتخلف عن اللحاق بالعالم ومناهجه الحديثة المتسارعة، إذا كانت هذه المعادلة صحيحة من أن الفكر القومي الحزبي والفكرالديني الحزبي كلاهما يعملان على تجفيف خصوبة الثقافة وإعاقة تطورها وتحويل شعب بكل تنوعاته الى شعب متطرف يكره بعضه بعضا ويخاف من التقدم الى امام، بل يتطير من كلمة حداثة وتحديث وتجديد وتكنولوجيا.
فإن الجامعة العراقية تخلف فيها البحث الأكاديمي العراقي كثيرا على الرغم من شذرات قليلة ظهرت بصعوبة،
ومنذ الخمسينيات كانت الدراسات الأكاديمية في العراق تقليدا للدراسات المصرية في الجمع والتبويب وخطط العمل، وغلبت على النسبة الأكبر من البحوث والدراسات، الاستشهادات المكررةوالسرود التاريخية وتراجع التحليل الخلاق إلى مستويات متدنية، الأكاديمية العراقية عجزت منذ تأسيسها حتى اليوم أن تقدم لنا مناهج بحث جديدة تساعد على حل مشكلاتنا في التعثر السياسي ومشكلاتنا في فوضى مصطلحات الأدب وتياراته ومشكلاتنا مع الماضي الذي يبتلع حاضرنا ومستقبلنا، التعليم الحديث صمام أمان والجامعات هي التي تصنع صمام الأمان هذا، على الرغم من أن تحقيق الكتب القديمة تثبيت لأصالة الشعب لكن آلاف الكتب التي تم تحقيقها نحت منحى الحكايات التراثية التي يكتبها هواة في الصحافة وكأنها تكتب لأجل الترقيات فق
تأسست دار المعلمين العالية العام 1923، انها اقدم من الجامعة اللبنانية والأردنية وأرسلت أسرابا من طلابها الى بريطانيا وفرنسا وموسكو وألمانيا منذ أواسط الثلاثينيات، الذين عادوا يحملون شهادات ومشاريع وقد سماهم الدكتور المرحوم داود سلوم وهو واحد منهم،رسل الثقافة البريطانية والفرنسية، سرعان ما نزعوا رداء ثقافتهم الجديدة وشكل الكثير منهم سدا منيعا امام موجة الحداثة التي كانت رائجة في وسط ثقافي خارج محيط الجامعة وكان تعالي الجامعة وازدراؤها للتحديث سجناها في عزلة، لكن من سجنها في تلك العزلة؟ من فرض عليها ذلك الخوف والتردد والتمنع.
أزعم أن هناك فرضية سياسية ملفقة وجهت البحوث الأكاديمية والإعلام طوال أكثر من ثمانية عقود وتسببت في انفصال الجامعة عن المجتمع العراقي من جهة، وانفصالها عن الحركة الأدبية والفنية والفكرية، وما كان يدور خارج سور الجامعة من تجديد من جهة ثانية، تلك الفرضية السياسية تجمعت من ثلاث تركيبات،
التركيبة الأولى في بداية تأسيس الدولة العراقية. افترض ساطعالحصري ان القومية ومنها القومية العربية تتكون من اللغة المشتركة والتأريخ المشترك، وما ان حصلنا على دولة وطنية ناشئة حتى وضعالحصري لغما لنسفها، وهو يعرف جيدا ان التاريخ العربي هو ذاته التأريخ الإسلامي وأغلب الأمثلة التي ساقها كانت على النقيض من فرضيته. لنقرأ واحدا من أمثلته “إن الفرنسيين اعتنقوا المذهب البروتستانتي ثم هاجروا إلى ألمانيا في عهود الاضطهادات الدينية، اندمجوا بالألمان اندماجاً تاماً، ولم يحافظوا على شيء من مميزاتهم القومية أبداً.
والأتراك والتتر والآسيويون الذين عاشوا تحت حكم القيصرية الروسية حافظوا على لغتهم وقوميتهم، بفضل اختلاف دياناتهم عن ديانة الحاكمين عليهم، غير أن من كان قد تنصر منهم لم يلبث طويلاً حتى اندمج بالروس اندماجاً تاما”. إذن الدين لعب دورا حاسما في الاندماج وليست القومية أيضاً يعرف جيدا ان المجتمع العراقي مجتمع( اثني) وحداته الاجتماعية متمايزة لا تتوحد بإطار قومي إلا عن طريق القوة المسلحة، وهذا ماتم فعلا في العقود الماضية، وكانت النتائج فجائع متواصلة،
التركيبة الثانية، افترض ميشيل عفلق ضرورة وجود طليعة قومية مؤمنة تستولي على السلطة وتدفع المجتمع وثرواته نحو تحقيق أهداف الأمة العربية بهذه التركيبة تحولت الثقافة العراقية الاكاديميةالى تعميق أوهام عفلق
في سلسلة كتب ودراسات أضاعت السنوات والجهد واستنزفت المهارة الأكاديمية العراقية في الدوران حول لغز البيضة والدجاجة.
التركيبة الثالثة افترضها أكاديمي أراد تطوير تركيبة الحصريالدكتور عبد العزيز الدوري الذي حذف التاريخ المشترك واستبدله بالثقافة العربية المشتركة، وان العرب عليهم أن يناوروا مع خصومهم الخارجيين مرة يضعون الإسلام في مواجهة الخصم الخارجي وأخرى يضعون العروبة في مواجهة الخصم الداخلي/ المحلي، إذن نزاع وحروب لا تنتهي.
بلع الشعب العراقي الطعم جيدا وأفلس تماماً كان شعبا جائعا تبددت ثروته في النهب والحروب والهبات لجياع العرب، كان جمال عبد الناصر زعيما قومياً في الخارج لكنه كان وطنيا وسط شعبه وفي داخل بلده وإنجازاته الوطنية لمصر لا يمكن مقارنتها بأي زعيم عراقي مهووس بالقومية العربية، كذلك الامر مع الملك حسين وأمراء الخليج. الكل كان يعمل من أجل شعبه ومن أجل إعمار بلده الاالزعماء العراقيين، الذين كانوا منفصلين عن واقعهم، وكرهوا شعبهم وبلدهم حد إهماله وتدميره وأسهمت طبقة الأكاديميين في هذا التضليل تحت سطوة الخوف من سلاح الطليعة القومية المؤمنة.
هذه المقالة تذكير لأولئك الذين يريدون اليوم أن يكرروا خطأ الماضي من خلال استبدال الدافع الوطني للدرس الأكاديمي بالدفاع الديني، كما تم من قبل إلغاء الهدف الوطني للجامعات وفرض هدف قومي زائف، بدد الإنجازات الوطنية الحقيقية للجامعة، الذي يثير الغبطة اليوم أن الجامعة فتحت أبوابها للمناهج الحديثة، وبنت جسور تواصل ملموسة مع الوسط الثقافي العراقي خارج الجامعة أمل صغير لكنه سيكبر غداً .

طباعة الخبر طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق ارسال الخبر الى صديق

اضافة تعليق