السلطان أردوغان: من القوّة الناعمة إلى القوّة الخشنة
تغيّر الكثير في تركيا بعد وصول “حزب العدالة والتنمية” إلى الحكم في العام ٢٠٠٢. لم يهوى سلطان أنقرة الجديد السير على نهج مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال الذي ألغى الخلافة الإسلامية العام ١٩٢٤ بعد توقيعه “معاهدة لوزان”، بل تغيّرت ملامح تركيا لاسيّما في سياستها الخارجية، وبدأت بنسج علاقات جديدة لتكريس صداقتها مع دول الجوار العربي – الإسلامي في ظل حزب العدالة والتنمية المطعم بالنكهة الإسلامية الليبرالية.
لكن تغيّر المشهد التركي العام في الـ١٣ عام الماضي ينقسم إلى حقبتين أساسيتين، الحقبة الأولى ما بين عامي٢٠٠٢ و٢٠١٠ ويمكن تسميتها بحقبة “القوة الناعمة”، وأما القسم الثاني الذي بدأ مع ما يسمّى بـ”الربيع العربي” غلب عليه طابع “القوّة الخشنة “.
القوّة الناعمة
لم تأتِ الاستراتيجية التركية الجديدة “القوّة الناعمة” التي إعتمدت على سياسة صفر مشاكل مع الجيران من فراغ، بل جاءت في سياق نظرية “العمق الإستراتيجي” لرئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو “كسينجر تركيا” حيث حاول رسم الخطوط العريضة للسياسة التركيّة العامّة لاسيّما الخارجية منها .
أدرك ساسة تركيا الجدد(حزب العدالة والتنمية) أن المفر الوحيد للعبور بتركيا إلى “إمبراطوريتها العثمانية” والهروب من الأزمات السابقة هو إستخدام القوّة الناعمة، لذلك حاول الحزب الجديد ممثلاً بجناحيه أردوغان وداوود أوغلو إستخدام جملة من الأساليب الناعمة أبرزها :
أولاً: على الصعيد السياسي،أُعيد تشكيل الهوية السياسية العالمية للبلاد، وحاولت تركيا دومًا ربط عواطف شعوب المنطقة والبلقان والقوفاز من خلال تذكيرهم بالرابط الديني وبالسلام والأمان والعدل الذين نعمت بهم تلك المناطق أثناء الحكم العثماني، كما إتخذت أنقرة العديد من المواقف المؤيد للشعوب العربية خاصةً تجاه الكيان الإسرائيلي .
ثانياً: على الصعيد الإقتصادي، تضاعف حجم اقتصادها ثلاث مرات على مدار العقد المنصرم. فالشركات والبضائع التركية تغزو خارج أسواقها التقليدية في أوروبا والمنطقة لكي تحوز على انتشار عالمي. كما أن الاستقرار السياسي على الصعيدين الداخلي والخارجي كان عاملاً أساسياً آخر لتحقيق النمو الاقتصادي .
ثالثاً: ثقافياً، منذ عام ٢٠٠٨ تقوم تركيا كل سنة بتنظيم مؤتمر ثقافي كبير بينها وبين إحدى الدول لتأكيد أواصر العلاقة وكسب فرصة تعريف مواطنين الدول الأخرى بتركيا لجذبهم لتركيا، أيضًا تقوم وزراة التربية والتعليم شهريًا بتنظيم مؤتمرات تعريفية بتركيا للطلاب المتفوقين الأجانب لجذب عقولهم وجعلهم يحبون الإقامة في تركيا. كذلك سعت حركة “مدرسة غولن” بتصدير الثقافة التركية إلى جميع أنحاء العالم .
رابعاً: علي الصعيد الإعلامي، أحد أبرز أسلحة القوة الناعمة، عملت تركيا على استخدام هذا السلاح بشكل احترافي ويمكن ملاحظة شيوع المسلسلات والأفلام التركية في التلفزيون العربي والفارسي والبلقاني والقوقازي، وجميع هذه المسلسلات والأفلام والدعايات السياحية لها تأثير قوي في جذب جميع الأنظار تجاه أنقرة .
نجحت القوة الناعمة التركية في النفوذ إلى العديد من الاماكن التي أرادتها، كما أن مبادئ نظرية العمق الإستراتيجي في السياسة الخارجية، لاسيّما الحرص على محاولة حل الخلافات سلمياً مع دول الجوار، التزام تركيا سياسة السلام الاستباقية من أجل الحؤول دون تحول الخلافات الإقليمية صراعات مزمنة، التأكيد أن تركيا دولة مركزية لها وجودها الجيو سياسي في أكثر من منطقة في الشرق الأوسط، شكلت الركيزة الأساس لتركيا الجديدة والفعالة في مجالها الحيوي. ولكن كيف كان واقع السياسة التركية في الحقبة الثانية؟
القوّة الخشنة
بعد بدء ما يسمى بـ”الربيع العربي” حاولت حكومة حزب العدالة والتنمية حصد ما زرعته، وبناء إمبراطورية عثمانية جديدة معتقدةّ أنه من السهل تحويل قوتها الناعمة إلى قوة خشنة، وقد كان هذا الإعتقاد محور ارتكاز سياسة أنقرة الخارجية على مدار الأعوام الخمس الماضية .
بدأت الاهداف الإستراتيجية تتضح شيئاً فشيئ مع إندلاع الثورة في تونس. ومع الأحداث التي وقعت في مصر عقب سقوط الرئيس الأسبق حسني مبارك، ومن ثم الأحداث في سوريا أدرك الجميع أن الهدف التركي من القوّة الناعمة هو الوصول إلى القوّة الخشنة لتكريس إمبراطورية “العثمانيين الجديد “.
بدا تورّط تركيا في أزمات المنطقة وبالتحديد سوريا عبر الدعم العسكري واللوجستي للجماعات المسلحة أكثر وضوحاً مع صفقات تبادل الأسرى (مع تنظيم داعش الإرهابي إثر إحتلال الأخير للموصل، وساطة تركية مع الجماعات المسلحة لتحرير أسرى لبنانيين…)، كما أن شراء النفطين العراقي والسوري من قبل حكومة أردوغان يؤكد الحقيقة نفسها .
لم تدرك تركيا أن لهب الحرب السورية سيمتد إلى أراضيها، كما أن النتائج السلبية لسياسة أردوغان الخارجية بدت واضحة في الإنتخابات الأخيرة. إنتقلت أنقرة من سياسة صفر مشاكل مع الجيران إلى سياسة صفر سلام مع الجيران، حتى أن الإستقرارالدخلي لم يعد موجوداً بعد مهاجمته لحزب العمال الكردستاني، ومن المتوقع أن تتأزم العلاقة مع تنظيم داعش الإرهابي بعد الصدامات الاخيرة (العلنية على الأقل) .
يتضح أن طموحات أردوغان اللاواقعية وسعيه للإنتقال من منطق القوّة الناعمة إلى (منطق) القوّة الخشنة قضت على أصدقاء تركيا في الخارج فضلاً عن إستقرار الداخل، وهذا ما سنرى نتائجه على الصعد كافّة، فلننتظر ونراقب .
المصدر / الوقت
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق