بين الـ١٩٨٧ والـ ٢٠٠٠ وما قبلهما، الإنتفاضة الفلسطينية الثالثة لها ظروفها في سلّم الأولويات
النبي موسى، يافا، البراق، الكف الأخضر، أكتوبر، الشهيد عز الدين القسام، الثورة الفلسطينية الكبرى كلّها ثورات وإنتفاضات وحركات دارت رحاها في فلسطين وقامت قبل الإنتفاضتين المعروفتين عامي 1987 و2000. وبالرغم من التفاوت في حجم هذه التحركات وتضحياتها والنتائج التي راكمتها، إلا أنّ كل واحدة منها كانت لها أسبابها وتداعياتها. فإذا أخذنا أسباب وظروف قيام نموذجين قريبين هما “إنتفاضة الحجارة- 1987″ و”إنتفاضة الأقصى– 2000” لنضع أمام أعيننا مستقبل قيام الإنتفاضة الثالثة لا بدّ لنا أن نأخذ بعين الإعتبار ظروف المنطقة التي تعيش أوضاعاً سياسية وأمنية صعبةً جداً، وتحديات وجودية لقضايا الأمتين العربية والإسلامية تسعى من خلالها أمريكا وحلفاؤها وأدواتها إلى إنهاء القضية الفلسطينية ومحوها من ذاكرة الأجيال الصاعدة.
فمن الواضح أنّ الأمور تغيّرت والنفوس تبدّلت. فلماذا أصبحنا ننظر إلى مشاهد قتل الأطفال والنساء وتدمير البيوت وتدنيس واستباحة حرمة المسجد الأقصى والمقدسات دون إطلاق أي صرخة حتى؟ الظروف لم تعد كما كانت لكن لا يجب أن تنكسر عزيمتنا وإرادتنا للدفاع عن مقدساتنا.
فبالعودة إلى ظروف إنتفاضة الحجارة (1987)، التي بدأت يوم 8-12-1987 حين أضرمت حادثة قيام سائق شاحنة صهيوني بدهس مجموعة من العمال الفلسطينيين في غزة الشرارة التي فجرت الغضب الفلسطيني، حيث بدأت الانتفاضة في جباليا لتمتد بعدها إلى كل مدن وقرى ومخيمات فلسطين في غزة والضفة الغربية وأراضي الـ 1948. فقد كانت الظروف المعيشية للفلسطينيين سيئة للغاية فكان عشرات الآلاف منهم يعبرون الخط الأخضر يومياً للعمل في المناطق “الإسرائيلية”، كانوا يشعرون بالإذلال واضطروا للاصطفاف يومياً بالمئات بانتظار مقاول إسرائيلي يختار القوي منهم للعمل في البناء فيما سماه أحد الصحفيين الإسرائيليين بـ “سوق اللحم”. كانت القوانين الإسرائيلية صارمة للغاية تجاه أي نشاط معادٍ لها مهما كان رمزياً، فكانت تحظر رسم الشعارات أو إنشاد الأغاني الوطنية أو رفع العلم الفلسطيني أو حتى رفع علامة النصر، وقد سجن الکيان الاسرائيلي اعتماداً على هذه القوانين قرابة نصف مليون فلسطيني قبل وأثناء الانتفاضة. وهدأت الانتفاضة في عام1991، وتوقفت نهائياً مع توقيع اتفاقية أوسلو بين الکيان الإسرائيلي ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993. ونجحت المقاومة من خلال الإنتفاضة في تحقيق عدد من المكاسب السياسية كان أبرزها طرح القضية الفلسطينية بشكل مؤثر أمام الرأي العام العالمي والاعتراف بحق الفلسطينيين لأول مرة في التفاوض من أجل حقوقهم من قبل عدد كبير من دول العالم وحتى من قبل خصومهم، ومهدت الطريق أمام منظمة التحرير الفلسطينية للدخول في مفاوضات مع الكيان الإسرائيلي بعد أن كانت تدار بالوكالة من قبل الأردنيين.
وفي داخل الکيان الاسرائيلي، ولأول مرة منذ بداية الاحتلال بدأت قوى سياسية ومنظمات عديدة تعرب عن سخطها تجاه ممارسات الجيش الإسرائيلي، وتتحدى حكومة الکيان علناً بشكل غير مسبوق، وتصف الفلسطيني على الطرف الآخر بأنه شريك في الأرض. وتضافرت الجهود بين النشطاء الفلسطينيين والإسرائيليين لتنظيم حركات مشتركة هدفها تغيير الرأي العالم العالمي والإسرائيلي حول الصراع.
أمّا إنتفاضة الأقصى في عام 2000، فقد اندلعت عقب دخول رئيس وزراء الکيان الاسرائيلي الاسبق آرييل شارون عتبة الحرم القدسي الشريف في27-9-2000، تحت حماية ظاهرة ومعلنة من الشرطة الإسرائيلية إلى باحة المسجد الاقصى، بهدف تأكيد السيادة الاسرائيلية على الحرم القـدسي ودخلت قوات الأمن الاسرائيلية المنطقة المحيطة بالمسجد الأقصى في القدس وأطلقت رصاصاً مطاطياً وذخيرة حية رداً على الحجارة التي أُلقيت من المصلين عند حائط البراق. الامر الذي اجج مشاعر المسلمين، وانفجر معها الشارع الفلسطيني والشارع العربي، وارتبكت حسابات الجميع من واشنطن وتل أبيب، إلى السلطة الفلسطينية والأنظمة العربية والجامعة العربية والأمم المتحدة.
ففي الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2000 انكسرت عملية السلام على المسار الفلسطيني الإسرائيلي بعد فشل مفاوضات “كامب ديفيد” في وضع إطار للتسوية النهائية يحظى بقبول الشعب الفلسطيني، حيث تعذر التوصل إلى حلول بشأن مسألة “القدس” ومسألة “اللاجئين”. وشكلت هذه الانتفاضة تعبيراً عن مرحلة جديدة في تاريخ القضية الفلسطينية في ضوء ما آلت إليه عملية التسوية من فشل. وكان من نتائج هذه الانتفاضة انعدام الأمن في الشارع الاسرائيلي بسبب العمليات الاستشهادية، وضرب السياحة في الكيان بسبب العمليات وأيضاً مقتل عدد من القادة الاسرائيليين .
وقد أوقفت إنتفاضة الأقصى التراجعات الفلسطينية على مسار المفاوضات، وان كانت حصيلة الانتفاضة عدداً كبيراً من الشهداء الذين تجاوز عددهم 600 شهيد من بينهم أكثر من 100 طفل منهم محمد الدرة، والطفلة سارة وإيمان حجو التي لم تتجاوز أربعة أشهر من عمرها وغيرهم، وأكثر من 15 ألف جريح، وخسارة الاقتصاد الفلسطيني قرابة 4 مليارات دولار. إلا أن خسائر الکيان الاسرائيلي لم تكن قليلة، إذ بلغت الخسائر الاقتصادية أكثر من ملياري دولار. وقد أوقعت الإنتفاضة خسائر جسيمة بشرية وعسكرية. ولكن الخسائر المادية والمالية التي مُني بها الاقتصاد الاسرائيلي كانت الأفدح والأكثر ضرراً وتأثيراً، حيث لم يتصور أحد أن هذا الشعب الأعزل والمحاصر يستطيع الوقوف أمام الغطرسة الإسرائيلية للدفاع عن حقوقه، وقد أبدى الشعب الفلسطيني صموداً مذهلاً ومقاومةً عنيدة أمام الکيان الإسرائيلي.
لكن ظروف الأمس ليست كما اليوم والأوضاع السياسية والأمنية تغيرت كثيراً في المنطقة، وحتى النفوس قد تبدلت وبوصلة العرب لم تعد فلسطين بل تمكنت أمريكا وأدواتها بمشروعها التدميري للمنطقة، أن يحرفوا اتجاه البوصلة حتى ينعم الکيان الاسرائيلي بالسلام وهو يشاهد العرب والمسلمين يتقاتلون. وما فجّر إنتفاضات الأمس لم يصل أبداً إلى ما يقوم به الکيان الاسرائيلي من قتل للمدنيين وتهجير للعائلات وتدنيس المسجد الأقصى والإعتداء عليه. وعلى الرغم من ذلك فما كان بعد دخول أرييل شارون إلى المسجد الأقصى في سبتمبر/أيلول 2000 لا يشبه أبداً ما بعد الاعتداءات الأخطر منه بكثير على المسجد في سبتمبر/أيلول 2015. ففي ظل اعتداءات على الأقصى هي الأخطر منذ الحريق عام 1969، لم يحرك أحد ساكناً. لا هبّة في الضفة الغربية ولا قطاع غزة، ولا تفاعل داخل أراضي الـ48، ولا حتى تظاهرات غضب في الدول العربية القريبة والبعيدة للتضامن مع ما يتعرض له المسجد. فقط عشرات من المرابطين والمقدسيين يواجهون وحدهم الهجمات اليومية الإسرائيلية، وسط بيانات الشجب والاستنكار المعتادة من بعض الدول العربية والإقليمية.
فإذا كانت الإرادة الفلسطينية لم تتغيّر، بل وإنّ ظروف حركات المقاومة الفلسطينية أفضل من أي وقت مضى فقد إستطاعت أن تصمد وتكسر شوكة الکيان الإسرائيلي أكثر من مرة. فإذا كان الحال كذلك ما الذي يمنع إنتفاضة جديدة؟ نعم يجب علينا أن نعترف بأنّ الغرب بأدواته الإسرائيلية والعربية إستطاع أن يشغل شعوب أمتنا بالإرهاب الذي صنعه وصدّره الينا. لكن لا يجب أن تتغير الوجهة ويجب أن تبقى فلسطين رأس قضايا العرب والمسلمين. فمحور المقاومة وحلفاؤه يقوى يوماً بعد آخر. يمكن أن يكون قد حصل تبدل مرحلي في سلّم الأولويات للقضاء على الإرهاب الذي غدا خطره وجودياً ولم يكن ليُصنع لولا عجز الكيان الإسرائيلي في تنفيذ مخططاته.
للتوضيح فقط، إنّ إتجاه البوصلة لم يتغيّر بالنسبة للشرفاء في هذا العالم فأمريكا وربيبها الکيان الاسرائيلي وأدواتهم العربية هم عين الإرهاب الذي نحاربه منذ سنوات، والقضاء على هذا الإرهاب سيُسقط معه مشروع إنهاء القضية الفلسطينية. لكن العتب على بعض شعوب أمتنا التي خُدّرت بالإعتياد على مشاهد قتل الأطفال والنساء وتدنيس المسجد الأقصى والمقدسات دون الإنتفاضة والثورة. فما تغيّر عند كثيرين هو الإرادة للتغيير والمقاومة، لكن آخرون كثر ما زالوا يجهدون ليل نهار وعينهم على القدس والمسجد الأقصى بعد تحرير كامل تراب فلسطين العزيزة.
المصدر / الوقت
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق