أمريكا وحساباتها الجديدة في المنطقة
“في عالم معقد، لا يحتمل عدد من المسائل الامنية التي نواجهها اجوبة سهلة وسريعة.. التحديات التي نواجهها تتطلب الصبر الاستراتيجي والمثابرة”، تلك هي العبارة التي إستخدمها الرئيس الأمريكي باراك أوباما في مقدمة “استراتيجية الامن القومي”، وعمّمتها إدارته تحت عنوان «تحديات واولويات الولايات المتحدة» في شهر شباط مطلع العام الجاري.
لم تكن إستراتيجية الرئيس أوباما مختلفة كثيراً عن سياساته السابقة منذ بدء ولايته الأولى، بإعتبار أن الإدارة الأمريكية إعتمدت سياسة خارجية مختلفة عن سابقتها إبان الرئيس جورج بوش الإبن. فقد أعطى أوباما هامشاً أكبر للمجال الدبلوماسي رغم بعض التغييرات التي طرأت مع ظهور الجماعات التكفيرية في منطقة الشرق الأوسط.
وبالفعل، خفّضت دبلوماسية أوباما العلنية، أعداد الجنود الأمريكيين المنتشرين في العراق وافغانستان، عندما وصل الى البيت الابيض في 2009، من 180 الف جندي كانوا ينتشرون في العراق، إلى 15 ألف ولاحقاً إلى 3080 جندي، وكذلك الأمر بالنسبة لأفغانستان، رغم تأجيله الإنسحاب مرتين، حيث قال أوباما أمام البيت الابيض إن بلاده ستبقي 5500 جندي فقط في أفغانستان عند مغادرته منصبه في عام 2017.
إلا أن هذه الدبلوماسية العلنية، ترافقت مع سياسة جديدة للإدارة الامريكية قوامها “الحرب بالوكيل”، مستفيدةً من تجربتها السابقة أثناء إحتلال العراق وأفغانستان. أوباما حاول من خلال دعم الجماعات الإرهابية في سوريا والعراق تمرير جملة من المشاريع، أبرزها القضاء على الرئيس الأسد وبالتالي تقطيع أوصال محور المقاومة، حماية الكيان الإسرائيلي، إضعاف العراق وتأمين المصالح الامريكية النفطية، تقسيم المنطقة عبر الضرب على الوتر الطائفي والمذهبي، القضاء على النفوذ الروسي في سوريا…
إفشال المخططات الأمريكية
نجحت الإدارة الأمريكية، إبتداءً في الوصول إلى مرحلة متقدمة من مخططاتها عبر الدعم التام للجماعات التكفيرية، لاسيّما تنظيم داعش الإرهابي، إلا أن حضور محور المقاومة من ناحية، والدعم الروسي من ناحية أخرى، عرقل المخططات الأمريكية، وربّما أفشلها، بل أفضى إلى نتائج عكسية ساهمت في تعزيز هذا المحور بدءاً من طهران مروراً بدمشق وبيروت وصولاً إلى بغداد وصنعاء.
أمريكا، إستمرّت في دعم الجماعات التكفيرية بغية إستنزاف سوريا والعراق وحزب الله وإيران، حتى وصل الأمر في بعض الأحيان للدعم العسكري المباشر سواءً عبر ضرب قوات الحشد الشعبي في العراق، او إلقاء السلاح للتنظيم الإرهابي، وكالعادة عن طريق الخطأ.
إلا أنه بعد سنوات من مشاركة حزب الله في ضرب الجماعات التكفيرية، إضافةً إلى الدعمين الإيراني والروسي للرئيس الأسد، وعقب زيارة قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني إلى موسكو ولقائه الرئيس بوتين، اتُخذ قرار بالمشاركة العسكرية الروسية-الإيرانية لضرب الجماعات التكفيرية في سوريا، قرار ضرب الإستراتيجية الأمريكية “الصبر الإستراتيجي” في الصميم، مما أجبر واشنطن على إعادة حساباتها في المنطقة.
حسابات جديدة
مع بدء التدخل الروسي والإيراني في سوريا، حاولت واشنطن محاربة الأمر سياسياً عبر الضغط الدبلوماسي لوقف الضربات الجويّة الروسية، إلا أن إصرار الرئيس الروسي على إستكمال مشروعه برفقة الحليف الإيراني، لم يترك لواشنطن سوى مخرج وحيد يتعارض وسياسة “الصبر الإستراتيجي”، ويتمثّل في ضرب تنظيم داعش الإرهابي في سوريا والعراق، خلافاً للمداعبة طيلة الفترة السابقة تحت مسمّى “التحالف الدولي”.
اليوم، تتحدث واشنطن على لسان مسؤول كبير في الادارة الامريكية في تصريحه لوكالة فرانس برس، عن إرسال العشرات من القوات الامريكية الخاصة الى شمال سوريا للمشاركة ميدانيا بالإضافة إلى نشر مروحيات ضاربة في العراق في ما تدعيه الحرب ضد تنظيم “داعش” الإرهابي. كذلك وبالتزامن مع التصعيد الإعلامي الأمريكي ضد التنظيم الإرهابي، أكدت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) أن قوة أمريكية خاصة نجحت في تحرير 70 رهينة كرديا من قبضة تنظيم داعش الإرهابي شمالي العراق، الامر الذي تسبب بمقتل جندي أمريكي.
التغيّر في المزاج الأمريكي، لم يكن ليحصل لولا التدخل الروسي الإيراني، لذلك عمدت واشنطن إلى تعزيز ضرباتها العسكرية إضافة للحديث عن تدخل برّي ضعيف خشية أن لا تشاطرها روسيا حصد نتائج القضاء على التنظيمات الإرهابية، وهنا تجدر الإشارة إلى نقطتين رئيسيتين:
النقطة الأولى: أن هذه “القنابل الإعلامية” بالحديث عن تدخّل أمريكي تهدف لكسب نتائج أكبر في مفاوضات فيينا، خاصةً أن المسؤول الأمريكي أوضح أن عدد قوات العمليات الخاصة الامريكية في شمال سوريا سيكون “اقل من 50” عسكريا، وهذا العدد غير قادر على تغطية بلدة واحدة في الشمال السوري.
النقطة الثانية: تسعى واشنطن اليوم، وبعد إنهيار مشاريعها السابقة، للإلتفاف على الوضع القائم، وضرب التنظيم الإرهابي في سبيل الحصول على إمتيازات أكبر، وما تشديد الضربات الأمريكية في بعض مناطق داعش الإرهابي، وإعتبار وزير الخارجية الأمريكي أنه قد “حان الوقت لوقف إراقة الدماء السورية”، إلا في هذا السياق.
المصدر / الوقت