السعودية و«الإخوان»: نهاية دامية لزواج مصلحة
محمد سيد رصاص
في موسم حج عام 1936، التقى حسن البنا مع الملك عبد العزيز آل سعود. عرض البنا تأسيس فرع للإخوان المسلمين في المملكة، ليجيب الملك برفض مهذب من خلال العبارة التالية: «كلنا إخوان، وكلنا مسلمون». بالتأكيد، كان في ذكريات الملك ما حصل عامي 1928 – 1929 من قبل حركة تمرد مسلحة انبثقت من داخل الحركة الوهابية – السعودية، التي تأسست مع الحلف الشهير عام 1744 بين محمد بن سعود ومحمد بن عبد الوهاب في الدولة السعودية الأولى، لما جرى تقاسم وظيفي يتولى آل الشيخ ابن عبد الوهاب الشأن الديني وآل سعود الأمر السياسي، سمّيت باسم «الإخوان» بقيادة زعيم قبيلة مطير فيصل الدويش وزعيم قبيلة عتيبة سلطان بن بجاد في مناطق شمال نجد وفي المناطق المحاذية للحدود الكويتية والعراقية.
كان الاثنان من كبار قادة عبد العزيز آل سعود، وكان لهما دور كبير في سيطرته العسكرية على نجد والحجاز. في أواخر العشرينيات كان هناك توتر كبير بين هاشميي بغداد وعمان، تدعمهما بريطانيا، وبين آل سعود الذين أسقطوا سلطة الشريف حسين على الحجاز عامي 1924 – 1925. كان الزعيمان القبليان مستاءين من تهميشهما في المناصب بالدولة الوليدة، وكانت لندن تفكر في خط حديدي يربط البصرة بميناء حيفا عبر شمال المناطق التي يسيطر عليها ابن سعود. دعمت بريطانيا التمرد المسلح الذي كان أكبر تحدٍّ عسكري يواجهه الملك عبد العزيز في مسيرة حكمه، احتاج منه سنتين وكان يقود المعارك بنفسه حتى إخماد التمرد.
هذه المعادلة، بين التنظيم الجديد المولود في مصر منذ آذار 1928 والمملكة التي أُعلن رسمياً قيامها عام 1932 بعد ضم عسير، لتنضم لنجد والاحساء والحجاز، ظلّت قلقة. وكان تعامل الرياض الإيجابي الحذر مع التنظيم الجديد له علاقة بالتوتر مع الملك فؤاد الذي فكر جدياً بالخلافة بعد إلغاء أتاتورك للخلافة العثمانية عام 1924، ثم بالعلاقة المتوترة مع ابنه فاروق القريب من بريطانيا ذات العلاقة المتوترة مع المملكة السعودية الجديدة التي لم تعترف بها القاهرة بضغط من لندن. مع تأسيس الجامعة العربية في آذار 1945 بدأ تبلور حلف بين الرياض والقاهرة ضد هاشميي بغداد وعمان، تزامن مع لقاء جمع الملك عبد العزيز مع الرئيس الأميركي روزفلت في باخرة عند قناة السويس أثناء عودة الرئيس الأميركي من قمة يالطا مع ستالين وتشرشل. كان البنا مسروراً من هذا التقارب المصري – السعودي، وفي موسم حج 1945، استقبل البنا من قبل مندوب الملك الأمير عبد الله الفيصل، ثم في العام التالي استقبله الملك.
لم يكن هناك الكثير من المشتركات العقيدية بين «الإخوان» و«الوهابية»: كان البنا من دون تفكير مذهبي لا يتقيد بتخوم المذاهب السنية وخلافاتها التي امتدت من الفروع لبعض الأصول مع تغلغل الأشعرية في المذهبين الشافعي والمالكي مما كان مصدر نزاعات كبرى مع الحنابلة، بل كان يؤمن بـ«صحيح إسلام جميع أهل القبلة والشهادتين»، وكان تفكيره مثل الأفغاني في «إسلام عام» يتجاوز التخوم السنية _ الشيعية. كان الوهابيون في الطرف الآخر عقيدياً، يكفرون الأشاعرة والشيعة.
كان اللقاء سياسياً محضاً: تزعزعت علاقة «الإخوان» مع الرياض في 17 شباط 1948 مع دعم حسن البنا للانقلاب على الإمام اليمني يحيى في صنعاء ومقتله، ثم مع دعم الملك عبد العزيز، والملك فاروق، لابن الإمام المقتول أحمد في اجتياحه صنعاء يوم 14 آذار 1948 وإفشال الانقلاب، في محاولة من الأسرتين المالكتين لإفشال أية محاولة لتجاوز أنظمة الحكم الوراثي الملكي بأي من دول الجامعة العربية. كان ضرب تنظيم الإخوان في الشهر الأخير من عام 1948، ثم اغتيال البنا في شباط 1949 حصيلة لفاتورة ما جرى في صنعاء وتداعياته في القاهرة والرياض. كان تجاوز حدود الحكم الملكي الوراثي سبباً في تقارب سعودي _ إخواني عام 1954، بعد أن كان سبباً للخلاف بينهما عام 1948، لمّا استقبل المرشد العام للإخوان المسلمين حسن الهضيبي استقبالاً حافلاً أثناء زيارته للسعودية في يونيو/ تموز 1954، وهو الخارج من السجن بعد خلاف عاصف مع جمال عبد الناصر. وزوّده الملك سعود بطائرة خاصة أقلته في رحلته إلى دمشق. وبعد ضرب عبد الناصر لتنظيم «الإخوان»، إثر حادثة المنشية في 26 أوكتوبر/ تشرين الأول عام 1954، لاقى الإخوان المسلمون المصريون ملجأً رحباً في السعودية ثم تبعهم «إخوان» سوريا في فترة 1964 _ 1982. تزامن هذا مع خلاف الرياض والقاهرة الذي انفجر منذ ربيع عام 1957 في شكل مجابهة وصلت إلى حدود «حرب باردة عربية» كانت انعكاساً لما يجري بين واشنطن وموسكو، وأصبح لها شكل أيديولوجي لما طرح الملك فيصل «الحلف الإسلامي» مع إيران وباكستان عام 1965 ضد عروبية عبد الناصر في ذروة حرب اليمن. احتاج الملك فيصل إلى مدرعات أيديولوجية في وجه الطرح القومي العروبي، لم يجده إلا عند «الإخوان»، الذين لم يجدوا فقط في الرياض ملجأً، بل أيضاً سنداً ضد القاهرة ثم كانت بوابتهم إلى العاصمة المصرية بعد أن كان الملك فيصل عراب المصالحة بين الرئيس المصري الجديد السادات وتنظيم «الإخوان» في صيف 1971 إثر ضرب ناصريي 15 مايو 1971، وتوتر العلاقات المصرية _ السوفياتية.
كانت حصيلة هذا الزواج، بين السلطة السعودية وتنظيم الإخوان، سيطرة الأخيرين على النظام التعليمي بالسعودية. ويكفي هنا الإشارة إلى الإخواني المصري مناع القطان الذي وضع منذ الخمسينيات السياسات التعليمية في المملكة، وأصبح مديراً للدراسات العليا بجامعة الإمام محمد بن سعود، والإخواني السوري عبد الفتاح أبو غدة الذي وضع مناهج الدراسات العليا في كلية التربية في جامعة الإمام محمد بن سعود، ووضع مناهج المعهد العالي للقضاء بالرياض وكلية الشريعة بجامعة الإمام ابن سعود. نازعهم السلفيون الوهابيون التقليديون في حقل القضاء. في الحياة الأكاديمية السعودية في فترة 1970 _ 1991 كانت السيطرة الإخوانية غالبة أمام السلفيين و«الليبراليين»، وقد امتد «الإخوان» إلى النظام التعليمي الحكومي، ثم أسّسوا مدارس خاصة مثل «مدارس التيسير» في جدة، التي أسس سلسلتها الإخواني المصري أحمد حسن الخولي عام 1968.
تعزّز هذا الزواج السياسي السعودي _ الإخواني في محطة أفغانستان 1979 – 1988، ولم يزعزعه تقارب «الإخوان» مع الخميني عقب وصول الأخير إلى السلطة (ارسل التنظيم الدولي للإخوان وفداً لمقابلة القائد الإيراني كان أحد أعضائه سعودياً، هو عبد الله سليمان العقيل). عام 1986 حصل تصدّع «إخواني سوري» مع الرياض لما انقسم التنظيم السوري بين موالين للرياض بقيادة الشيخ أبو غدة وموالين لبغداد بزعامة عدنان سعد الدين، خففت آثاره بوقوف القيادة الإخوانية بالقاهرة مع الجناح الموالي للرياض. لم يؤد هذا الزواج إلى تقاربات أيديولوجية بين النزعتين الإخوانية الأصولية والنزعة السلفية الوهابية، وعندما حاول الإخواني السوري محمد سرور زين العابدين، المقيم بالسعودية، إيجاد توليفة جامعة بين ابن عبد الوهاب وسيد قطب نبذه الإخوان، ولكن لاقت «السرورية» رواجاً كبيراً ولتنافس الإخوان في حصونهم التعليمية والأكاديمية السعودية في الثمانينيات، كما كان لتلاميذه تأثير ثقافي كبير في السعودية مثل «سفر الحوالي».
كانت محطة غزو العراق للكويت في 2 آب 1990 سبباً لافتراق إخواني _ سعودي كبير لمّا وقفت كل تنظيمات «الإخوان» (ما عدا الفرع الكويتي وجناح الشيخ أبو غدة) ضد استعانة دول الخليج بالقوات الأميركية ضد العراق. شارك «الإخوان» في هذا «السروريون»، ثم سلفيون آخرون مثل أسامة بن لادن الذي كان متأثراً بإخواني درّس في السعودية هو عبد الله عزام المتأثر بدوره بسيد قطب، قبل أن يمزج ابن لادن سلفيته الوهابية مع «جهادية» أيمن الظواهري المتأثر أيضاً بسيد قطب. خلال التسعينيات لم تقطع الرياض مع «الإخوان»، ولكن كان واضحاً تفضيلها للرئيس مبارك وزين العابدين بن علي وجنرالات الجزائر الداخلين جميعاً في صدامات مع الإسلاميين. وبعد «11 سبتمبر 2001» أصبح واضحاً – مع الضغط الأميركي لربط الوهابية بالإرهاب ثم مع دخول «السلفية الجهادية» في عمليات داخل السعودية ضد السلطة – أنّ الرياض ستتجه نحو انفصال «ما» مع ما بدأ مع الحركة الإسلامية العالمية منذ خريف1954. وقد أتى تصريح الأمير نايف في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2002 لجريدة «السياسة» الكويتية (عن أنّ «جماعة الإخوان المسلمين أصل البلاء. كل مشاكلنا وإفرازاتنا جاءت من جماعة الإخوان المسلمين، فهم الذين خلقوا هذه التيارات وأشاعوا هذه الأفكار) لتوضّح معالم الطلاق لهذا الزواج السعودي _ الإخواني.
خلال عقد زمني فاصل عن بدء «الربيع العربي» في الشهر الأول من عام 2011، كانت السعودية في افتراق جبهي في المواضيع الرئيسية عن «الإخوان»: غزو أفغانستان، غزو العراق، الموقف من الأنظمة العربية القائمة، حرب تموز 2006، إيران. شعرت السعودية بالقلق من الظاهرة الإسلامية التركية الأردوغانية وبداية طروحات أميركية عن «بديل إسلامي معتدل» لتطرف «القاعدة» ترافق مع تقاربات إخوانية مصرية مع واشنطن أثمرت ضغطاً أميركياً على مبارك قاد لأخذ «الإخوان» خمس مقاعد البرلمان المصري عام 2005، ثمّ دخول الحزب الإسلامي العراقي في وزارة المالكي في أيار 2006. مع سقوط زين العابدين بن علي ومبارك عام 2011، ثم تولية أنقرة والدوحة الملف السوري المعارض من قبل واشنطن، كان هناك صعود إخواني برعاية أميركية _ تركية أثمر وصولاً إلى السلطة لإخوان تونس ومصر، وتصدراً إخوانياً للمشهد السوري المعارض عبر «مجلس إسطنبول». قوبل هذا بتوجس وقلق سعودي كبير، قاد إلى دعم سعودي صريح لقوى مضادة للإخوان في القاهرة وتونس ولدعم قوى مضادة للإخوان في المعارضتين المدنية والعسكرية السورية، حتى إحكام سيطرة الرياض على «الائتلاف» السوري المعارض منذ أواخر أيار 2013، ثم ظهر دور الرياض في دعم انقلاب 3 يوليو 2013 ضد مرسي، وفي دعم الاضطراب المعارض التونسي ضد سلطة حركة النهضة.
كخلاصة عامة: كان هناك زواج مصلحة متبادلة بين الرياض و«الإخوان» في فترة 1954 – 1990 تزعزع في محطة الكويت. الطلاق كان بعد «11 سبتمبر 2001». المواجهة كانت مع الصعود الإخواني عام 2011. يبدو أن انطلاق المجابهة وتحولها إلى صدام علني هو بسبب الخوف من تكرار في عهد مرسي لتحالف إسطنبول والقاهرة، كالذي كان بين السلطان العثماني ومحمد علي باشا لما قام الأخير بتدمير الدرعية عام 1818 وقضى على الدولة السعودية الأولى، وخاصة مع وجود الكثير من الزرع الفكري – الثقافي – المؤسساتي لـ«الإخوان المسلمين» في المجتمع السعودي، كان يمكن أن يجعلهم «البديل الإسلامي» في حال نشوب أي اضطراب داخلي كالذي جرى في قاهرة 25 يناير 2011. أضيف لهذا القلق السعودي من طرح مرسي في طهران لتلاقٍ مصري – تركي – إيراني – سعودي، كان من الواضح أن الرياض ستكون هي الطرف الأضعف فيه إن قبلت، وسيطوقها إن رفضت. قبل هذا وذاك، تتوجّس الرياض من أي قطب عالمي للإسلام السني يكون خارجها.
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق