بعد الاعتراف الألماني بالإبادة الأرمنية، أين تذهب علاقات تركيا مع حليف الحرب العالمية الأولى؟
تتصف العلاقات التركية الألمانية بالعلاقات الجيدة نسبياً، حيث يقيم في ألمانيا نحو ثلاثة ملايين شخص من أصول تركية، ويبلغ التبادل التجاري بين البلدين أكثر من 30 مليار دولار، وتعود العلاقات بين البلدين إلى حقبة الحرب العالمية الأولى حيث دخلت كل من الدولة العثمانية والامبراطورية الألمانية آنذاك في تحالف لتشكل ما كان يعرف بدول المحور، في مواجهة قوات الحلفاء التي ضمت كل من فرنسا وبريطانيا وروسيا ودول أخرى.
وكان من جملة المآسي التي شهدتها تلك الحرب، الإبادة الجماعية بحق الأرمن في تركيا، وهي الواقعة التي قضى فيها ما بين (1 – 1.5) مليون شخص بين 1915 و1917، وفق ما يقوله الأرمن، وذلك نتيجة للقتل المتعمد والمنهجي للسكان الأرمن من قبل الدولة العثمانية خلال وبعد الحرب العالمية الأولى، وعمليات الترحيل القسري.
وقد شلكت الإبادة الأرمنية نقطة ضعف لتركيا بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب، ودأبت الحكومات التركية المتعاقبة على انكارها، والتقليل من شأنها، بدعوى أن عدد الضحايا أقل بكثير مما يذكر، وأن القتلى الأرمن سقطوا خلال حرب أهلية ترافقت مع مجاعة وأدت إلى مقتل ما بين 300 ألف و500 ألف أرمني فضلا عن عدد مماثل من الأتراك حين كانت القوات العثمانية و روسيا تتنازعان السيطرة على الأناضول. وتنفي تركيا بشكل قاطع عمليات الترحيل الجماعية التي تعرض لها الشعب الأرمني، كما قامت في العام 2005 بتمرير الفقرة 301 في الدستور التركي تجرم فيها الاعتراف بالمذبحة الأرمنية في تركيا.
وتعترف 20 دولة في العالم بالإبادة الجماعية للأرمن، من ضمنهم فرنسا، وإيطاليا، وروسيا، و42 ولاية أمريكية، رسميا بوقوع تلك المجازر كحدث تاريخي، إضافة إلى لجنة حقوق الانسان التابعة للأمم المتحدة، وتدأب الدول الأوروبية على إعادة نبش هذه القضية بين الفينة والأخرى، خاصة عندما يتعلق الأمر بضم تركيا إلى دول الاتحاد الأوروبي.
البرلمان الألماني يعترف بالإبادة الأرمنية
آخر ما كان يتوقعه الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، أن تقوم ألمانيا التي تعتبر من أكثر الدول الأوروبية دعماً لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، باستصدار قرار يعترف ويدين الإبادة الأرمنية، خاصة في ظل التفاهمات الأخيرة بين تركيا والاتحاد الأوروبي وتعهد تركيا بالحد من تدفق اللاجئين إلى الدول الأوروبية.
وكان البرلمان الألماني قد أصدر الخميس الماضي قراراً يعتبر المجازر الأرمنية على يد القوات العثمانية بمثابة “إبادة جماعية”، وصوت النواب في البوندستاغ بأغلبية ساحقة لصالح القرار الذي جاء تحت عنوان: “إحياء ذكرى إبادة الأرمن والأقليات المسيحية الأخرى في عام 1915 و1916. ويندد القرار بالدور الذي قامت به آنذاك حكومة تركيا الفتاة من إبادة شبه تامة للأرمن، كما يندد بالدور المؤسف للرايخ الألماني الذي لم يفعل شيئا لوقف هذه الجريمة ضد الإنسانية بصفته الحليف الرئيسي للدولة العثمانية.
القرار الألماني قوبل برد غاضب من أنقرة، التي رأت في الأمر “خطأً تاريخياً”، مرجّحة عواقب “خطرة” على العلاقات مع برلين، كما استدعت تركيا سفيرها لدى ألمانيا “حسين أفني كارسليوغلو” للتشاور. ونددت ثلاثة أحزاب من أصل أربعة في البرلمان التركي بقرار البرلمان الألماني، ووصفت مشروع القرار المصادق عليه بـ”الجائر”. وأصدرت الكتل البرلمانية لأحزاب “العدالة والتنمية” و”الشعب الجمهوري” و”الحركة القومية” بياناً مشتركاً، رفضت فيه “قرار البرلمان الألماني، محذرة من أن القرار سيضر العلاقات بين تركيا وألمانيا وجسر الصداقة الواصل بينهما.
وشن الرئيس التركي اليوم هجوماً عنيفاً على ألمانيا، معتبراً أن: “ألمانيا آخر دولة يحق لها الحديث عن الإبادة الجماعية، وعليها أولا أن تدفع ثمن محرقة الهولوكوست، وثمن قتل أكثر من 100 ألف شخص قبل أن تفكر فى محاسبة الآخرين”. وأضاف: ” إننا نجد اليوم أن الدول كافة التى تسعى لإعطائنا دروسا فى حقوق الإنسان، لديها تاريخ ملىء بالدماء والدموع والمجازر فى القارة الأفريقية”.
مستقبل العلاقات التركية مع ألمانيا والاتحاد الأوروبي
توتر العلاقة بين تركيا وألمانيا هو آخر ما تحتاجه تركيا خلال الفترة الحالية، حيث شهدت الفترة الماضية تعثراً واضحاً في تطبيق الاتفاق بين تركيا والاتحاد الأوربي، الموقع يوم 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، الذي ينص على التزام أنقرة بوقف تدفق اللاجئين إلى القارة الأوربية، مقابل منحها دعماً مادياً بقيمة 6 مليارات يورو، وتفعيل المفاوضات بشأن الانضمام للاتحاد الأوروبي، وإلغاء شرط تأشيرة الدخول لأوربا للمواطنين الأتراك.
وقد هدد “اردوغان” مراراً بالامتناع عن تطبيق اتفاق الهجرة مع الاتحاد الاوروبي واغراق أوروبا بالمهاجرين، مالم يتم إعفاء المواطنين الأتراك من تأشيرات الدخول إلى منطقة شنغن الأوروبية. في المقابل طالبت الدول الأوروبية تركيا بتعديل قانون الارهاب الذي قالت بأنه يبرر اضطهاد الأكراد، ومن جهة أخرى بدأت باتخاذ خطوات سياسية أخرى داعمة للأكراد تمثلت بفتح مكتب لحزب الاتحاد الديمقراطي في باريس، كمقدمة لفعل الشيء نفسه في عواصم اوروبية اخرى.
وتكمن أهمية القرار البرلماني الألماني في كونه مؤشراً على احتمالات شن حملة أوروبية، وربما عقوبات اقتصادية مباشرة أو غير مباشرة ضد تركيا، وتبني برلمانات أوروبية أخرى الخطوة نفسها، في الوقت الذي بدأت تتزايد العزلة على تركيا بعد أزماتها الاقليمية المتزايدة في المنطقة وخسارة أغلب أصدقائها في الجوار، وعلاقاتها المتوترة مع روسيا، وخذلان الأمريكي لها فيما يتعلق بدعم الأكراد في سوريا.
ويأتي توقيت القرار الألماني ليعزز من خطورته، والذي جاء مفاجئاً للكثير من المراقبين، حيث تزامن التصويت على الاعتراف بالإبادة الأرمنية مع المفاوضات الجارية حاليًا بين الاتحاد الأوروبي – والتي ترأسها ألمانيا – وبين تركيا حول كيفية السيطرة على تدفق المهاجرين، بالتوازي مع انشغال الاتحاد الأوروبي وتركيا أيضًا بمحادثات انضمام أنقرة إلى الاتحاد الذي يضم 28 عضوًا أوروبيًا.
هذا القرار الألماني يعبر عن فشل السياسات التركية خلال السنوات الماضية، فتداعياته لن تقتصر على العلاقات الثنائية، بل ستمتد إلى العلاقات التركية مع الاتحاد الأوروبي، لأن ألمانيا تعد المحرك الرئيسي في أوروبا، كما أن المستشارة “أنجيلا ميركل” مارست دورًا فاعلًا في تنشيط المحادثات التركية- الأوروبية”.
الأمر المؤكد في ما يجري، هو أن الطريق التركية نحو الانضمام للاتحاد الأوروبي ما تزال شديدة الوعورة، وأن الدول والشعوب الأوروبية لن تتقبل عاطفياً البلد المسلم عضواً في اتحادها، وأن الخيار الوحيد أمام تركيا أن تعيد حساباتها تجاه دول الجوار، وتبني معها علاقات جيدة كما في السابق، ولا ندري إن كان الدولة التركية قد التفت إلى أخطائها أخيراً أم لا.
المصدر / الوقت