المستويات الثلاثة للدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط
تشهد منطقة الشرق الأوسط منذ سنوات سلسلة من التطورات التي تعكس طبيعة السياسات المتباينة، والمتناقضة في كثير من الأحيان للنظام السلطوي الذي تتزعمه أمريكا في العالم.
فعلى سبيل المثال تعرب الإدارة الأمريكية عن قلقها إزاء ما يحدث من تطورات في البحرين نتيجة الإحتجاجات الجماهيرية الواسعة التي تطالب بالتغيير والإصلاح السياسي منذ أكثر من خمس سنوات، لكنها في الوقت ذاته تغض الطرف عن الممارسات القمعية التي تنتهجها سلطات آل خليفة ضد الشعب البحريني ورموزه الدينية والوطنية، ومن بينها إسقاط الجنسية عن المرجع الديني آية الله الشيخ عيسى قاسم.
وفي العراق الذي يواجه في الوقت الحاضر أعتى هجمة إرهابية تستهدف وجوده ومصيره، تشترط أمريكا وحلفاؤها عدم مشاركة الحشد الشعبي في هذا البلد في عمليات تحرير المدن التي تسيطر عليها الجماعات الإرهابية كالفلوجة والموصل، مقابل تقديم الدعم الجوي المحدود للجيش العراقي في هذه العمليات، وفي نفس الوقت تدّعي الإدارة الأمريكية بأنها تسعى للقضاء على الإرهاب.
وفي تركيا التي شهدت مؤخراً محاولة إنقلابية فاشلة وبعد أن أُتهمت الإدارة الأمريكية بالوقوف ورائها، سعت واشنطن إلى رفض هذا الإتهام في وقت لازال يعتقد فيه الكثير من المراقبين بأن واشنطن هي التي دبّرت هذه المحاولة لتغيير النظام في أنقرة بعد أن قررت الأخيرة تغيير سياستها تجاه المنطقة والتعاون مع روسيا وإيران للتوصل إلى حلول لأزماتها لاسيّما الأزمة السورية.
ورغم محاولاتها لتأجيج الحرب في سوريا عبر دعم الجماعات الإرهابية في مراحل مختلفة، تتظاهر واشنطن الآن بالسعي لتسوية الأزمة في هذا البلد من خلال التوجه لإرضاء موسكو وإقناعها بإنشاء تحالف جديد لهذا الغرض.
وفي لبنان تتجاهل السفيرة الأمريكية في لبنان “إليزابيث ريتشارد” دور حزب الله في مواجهة “داعش” والجماعات التكفيرية والمتطرفة في البلد، لكنها تصرح في الوقت نفسه وبعبارات دبلوماسية منمقة بأنها ستسعى لمساعدة الحكومة اللبنانية في إقرار الأمن وإعادة الإستقرار الى البلد.
هذه التناقضات في المواقف والتصريحات يمكن رؤيتها أيضاً وبوضوح في تعامل الإدارة الأمريكية مع الأحداث والتطورات في كل من باكستان واليمن وأفغانستان ودول أخرى في العالم لإخفاء نواياها الحقيقة تجاه هذه الدول.
وعلى الرغم من هذه المواقف والتصريحات المتناقضة وغير المنسجمة في الظاهر، إلاّ أنها تهدف في الحقيقة إلى تحقيق الأهداف الأمريكية في المنطقة والعالم بأسره في إطار إستراتيجية محددة، وإن إختلفت أساليب وطرق تنفيذها حسب متطلبات المرحلة الزمانية أو المكانية “الجغرافية”.
وتعتمد سياسة أمريكا بشكل عام على ثلاثة أسس أو مستويات رئيسية لتحقيق أهدافها تندرج في إطار العوامل “الإستراتيجية” و “التكتيكية” و”وسائل الإعلام”.
فالأساس الإستراتيجي يمثل السياسات الكلية والبعيدة المدى والتي لا يطرأ عليها التغيير إلاّ نادراً وفي حالات محددة، كحصول تطورات كبيرة على الساحة الدولية، فيما تمثل الأسس التكتيكية الإجراءات المؤقتة التي تُتخذ في مراحل معينة وربما تكون متباينة، لكنها تصب في نهاية المطاف في خدمة الأهداف الإستراتيجية، في حين يمثل الأساس الثالث “وسائل الإعلام” الإطار الذي يتم من خلاله إطلاق التصريحات وإصدار البيانات خلال اللقاءات الصحفية أو بعد الإجتماعات والمؤتمرات التي تعقد هنا وهناك لبحث قضية معينة. ولا يفرض هذا النوع من السياسات أن تتطابق التصريحات والبيانات تماماً مع مقتضيات الضرورات الإستراتيجية أو التكتيكية لأنه يعبر عن حالات مؤقتة، ويراد منه في أغلب الأحيان جسّ نبض الطرف المقابل حيال تلك القضية. ولذلك تمثل السياسات الإستراتيجية والتكتيكية الأساس في عالم الدبلوماسية، أما ما يذكر أمام وسائل الإعلام فلا يمكن أن يكون الأساس لمعرفة الأهداف الرئيسية للسياسة الأمريكية.
وينبغي التأكيد هنا على أنه من الخطأ الفاحش أن يتم تقييم حقيقة الدبلوماسية الأمريكية من خلال وسائل الإعلام فقط، حتى وإن كانت هذه الوسائل تدور في فلك السياسة الأمريكية العامة. كما ينبغي التنبيه إلى أن الخطاب الإعلامي الأمريكي كثيراً ما يسعى إلى خلط الأوراق وقلب الحقائق في التعاطي مع الأحداث، نظير إطلاق صفة الإرهاب على المقاومة الإسلامية التي تتصدى للمشروع الصهيو أمريكي في المنطقة، أو الإكتفاء بالإعراب عن القلق إزاء إنتهاك حقوق الإنسان في البحرين دون التطرق إلى الحقوق المشروعة للشعب البحريني في المطالبة بالتغيير والإصلاح السياسي، ودون الخوض في تفاصيل الممارسات القمعية لسطات المنامة بحق المتظاهرين السلميين والرموز الدينية والوطنية في البلد. وهذا النوع من التعامل مع الأحداث يهدف في الواقع إلى حرف أذهان الرأي العام عن حقيقة ما يجري والتغطية على النوايا المبيتة للإدارة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط لتحقيق أهدافها الإستراتيجية الرامية إلى تمزيق دول المنطقة والتحكم بمصير شعوبها في إطار مشروعها المسمى “الشرق الأوسط الكبير أو الجديد”.
وتواجه سياسة أمريكا اليوم عقبات كثيرة تمنع من تحقيق أهدافها في الشرق الأوسط في مقدمتها محور المقاومة الذي تدعمه إيران بقوة، وعدم القدرة على تغيير الإستراتيجية التي تعتمدها في المنطقة والتي تهدف إلى إنهاء الإسلام السياسي أو إضعافه على الأقل من جهة، ونهب ثروات الدول الغنية التي تمثل الشريان الإقتصادي الحيوي بالنسبة لواشنطن من جهة أخرى.
ومن الوسائل التي تعتمدها الإدارة الأمريكية لتنفيذ مشروعها في الشرق الأوسط الدعم المتواصل للكيان الإسرائيلي في كافة المجالات، وكذلك دعم الأنظمة الموالية لها وفي مقدمتها النظام السعودي الذي بات يمثل حلقة أساسية من حلقات التآمر على شعوب ودول المنطقة.
ويظهر جلياً اليوم، حجم التطبيع في العلاقات بين عدد من دول المنطقة والكيان الإسرائيلي، فيما ظهر الى العلن علاقات كانت سريّة أفرزتها التطورات الإقليمية، لتصبح أولوية لدى الكثير من أطرافها، خصوصاً فيما يتعلق بالتعاون “السعودي – الإسرائيلي” الذي يستهدف إيران ومحور المقاومة بالدرجة الأولى، وذلك من أجل الوصول الى واقع يفرض تل أبيب كمرجعية لحلفاء أمريكا في المنطقة.
وفي المحصلة يمكن الجزم بأن جميع مصائب وأزمات العالم الإسلامي وتحديداً في الشرق الأوسط إنّما تنبع من السياسة الإستكبارية التي تنتهجها أمريكا وحلفاؤها في المنطقة، والتي يغلّفها المسؤولون الأمريكيون بلغة دبلوماسية ظاهرها جميل وباطنها خبيث كمثل الحية، ليّنٌ مسها، والسمّ الناقع في جوفها يهوي إليها الغرُ الجاهل، ويحذرها ذو اللب العاقل.
المصدر / الوقت