في مقابل استراتيجية أنقرة في الشمال السوري: ماذا عن خيارات دمشق؟
قدمت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية الرواية الأكثر تفصيلاً لمراحل تطور مشروع التدخل التركي في الشمال السوري، وصولاً إلى يوم دخلت الدبابات التركية جرابلس.
ملخص الرواية هو أن النقاش الجدي في تركيا توصل إلى قرار التدخل في حزيران 2015، وهو الشهر نفسه الذي حذرت فيه تركيا الأكراد من تجاوز نهر الفرات. وضعت الخطة في آذار الماضي عندما قدمت أنقرة لواشنطن لوائح بألف وثمانمئة مقاتل سوري سيشاركون في العملية. وبحسب ما يبدو، تشكل هذه العملية جزءاً من استراتيجية تركية أوسع.
أهداف الاستراتيجية التركية
تسعى الاستراتيجية التركية الحالية لتحقيق أهداف عدة: احتواء الخطر الكردي، تطوير المشاريع القومية الموالية لتركيا، تعزيز حصة تركيا في مستقبل الحل السياسي السوري.
أولاً، بينما تدرك أنقرة أنه من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، إعادة عقارب الساعة الكردية إلى ما قبل آذار 2011، لا سيما بعدما أصبح للولايات المتحدة قاعدتان جويتان في مناطق السيطرة الكردية شرق نهر الفرات، ترى أنه لا يزال هناك هامش كبير للعمل. الخطة التركية بحسب ما يبدو تشمل عزل المناطق الكردية في الشمال السوري عن المناطق الكردية في الجنوب التركي عبر تعزيز إجراءات مراقبة الحدود وصولاً إلى حد بناء جدار اسمنتي، بدأ تشييده فعلاً عند منطقة عين العرب. يحاول الأتراك هنا، وبوضوح، استنساخ تجربة الجدار الإسرائيلي الفاصل في الضفة الغربية، والذي سيزيد طوله الإجمالي على 700 كيلومتر. الجدار التركي لا يحتاج غالباً لأكثر من نصف هذا الطول. الجانب الآخر من الخطة التركية هو فصل الكانتونات الكردية الثلاثة في القامشلي وعين العرب وعفرين. وهذا الجانب ذو مرحلتين: الأولى بدأت فعلاً وهي محاولة السيطرة على المنطقة الممتدة بين عين العرب وعفرين، والمرحلة الثانية هي السيطرة على منطقة تل أبيض ذات الخمسة آلاف كيلومتر مربع والواقعة بين القامشلي وعين العرب. وقد بدأت مؤشرات التحرك هناك بالظهور من خلال الأنباء عن تحشيد القوات التركية وإعلانٍ منسوب لبعض القبائل العربية عن تشكيل «سرايا القادسية» التي قيل إن هدفها هو استعادة قرى تل أبيض العربية، البالغة ستمئة قرية، من أيدي القوات الكردية. بنجاح مسعى عزل الكانتونات الكردية الثلاثة عن بعضها وعن الجنوب التركي، يمكن لأنقرة أن تتنفس الصعداء، فهي ستقلل من تأثيرات الملف الكردي السوري على الملف الكردي التركي، وتجبر الأكراد السوريين على العودة إلى مرحلة العام 2014، وتتجنب اتفاقاً مكلفاً، ومحرجاً، مع دمشق.
ثانياً، لم يعد من الخفي أن أنقرة تدعم عدداً من الجماعات المسلحة، مثل «الحزب الإسلامي التركستاني»، وبعض المجالس التي تعتبر أنها ترتبط قومياً بتركيا، مثل «المجلس الوطني التركماني»، إضافةً إلى بعض «النوادي العصبوية» التي تضم آلاف الأعضاء الأتراك الذين يطالبون بإعادة بعض الأراضي التي خسرتها تركيا في سوريا وغيرها. وبدخول القوات التركية إلى جرابلس واحتمال دخولها مناطق سورية أخرى، لن يكون من المستبعد أن نشهد محاولاتٍ لخلق عدد من «الكانتونات» الموالية لتركيا في الشمال السوري.
ثالثاً، برغم صدور بيانات عدة عن الخارجية السورية تندد بأشد العبارات بالعملية العسكرية التركية، تستمر الأنباء بالتواتر حول اللقاءات السورية-التركية وحول ما هو مطروح على طاولة هذه اللقاءات. من حيث المبدأ، بات من المحسوم أن الحرب السورية لن تنتهي إلا بصفقة، أو بسلسلة من الصفقات السياسية، مع القوى الإقليمية والدولية المؤثرة. من وجهة النظر التركية، لا ضير من بدء التفاوض المباشر والسعي لانتزاع مكاسب معينة، لا سيما بعدما انفردت السعودية بتشكيل الوفد السوري المعارض، واحتكرت العديد من تفاصيل اللعبة السورية. في هذه الصفقة، من السهل نسبياً أن نكوّن تصوراً حول ما ستطلبه دمشق من أنقرة، كوقف الدعم عبر الحدود التركية، والتعاون ضد الأكراد. ولكن تصور ما ستطلبه أنقرة في المقابل ليس بالسهولة نفسها. من المبكر على أي حال، وربما من غير المفيد، أن نخوض في تفاصيل ما ستطلبه أنقرة، ولكن من المنطقي الافتراض أن أنقرة تعتبر أن زيادة وجودها على الأراضي السورية ستزيد بشكل ملحوظ من المكاسب المحتملة في أي صفقة مقبلة، بما في ذلك تفاصيل الحل السياسي.
خيارات دمشق
للتعامل مع الاستراتيجية التركية وتخفيض الثمن المتوقع في أي صفقة مقبلة مع تركيا، سواء كانت قيد التفاوض أم لا، تحتاج دمشق إلى تعزيز وجودها في شمال شرق سوريا. فدمشق غائبة بشكل شبه تام عن هذه المساحة الشاسعة، وتعزيز وجودها هناك يمكنها من تحقيق أهداف عدة. أولاً، تقويض المشروع الفدرالي الكردي وإعادته إلى حجم يمكن التعايش معه؛ وثانياً، قطع الطريق على التوسع التركي الذي يتذرع بالمخاوف من التوسع الكردي، وعلى المشاريع التي يمكن أن تخلقها تركيا على الأراضي السورية؛ وثالثاً، خلق أوراق تتيح لدمشق خوض مفاوضات فيها مقدار أكبر من الندية مع أنقرة. كل هذا يمر إذاً بزيادة حضور دمشق في نصف سوريا الشرقي، ولكن كيف يمكن إنجاز هذه الخطوة؟
من اللافت أن دمشق، وعلى عكس بغداد وأنقرة، لم تقم بتجنيد قوات محلية موالية لها لغرض مواجهة النزعة الانفصالية الكردية. فبينما نجحت بغداد في سبعينيات القرن الماضي في تجنيد ما يصل إلى عشرين ألفاً من الأكراد أنفسهم ضمن ما عُرف بقوات «فرسان صلاح الدين» للتصدي للملا مصطفى البارزاني، وشكلت تركيا ما عُرف «بنظام حراس القرى»، الذي شكل الأكراد غالبية عناصره البالغين نحو مئة ألف، للتصدي لـ «حزب العمال الكردستاني»، لم تُشكل دمشق لا قوةً كردية، ولا حتى عربية، للتصدي لدور مشابه. لم يفت الأوان تماماً على تشكيل مثل هذه القوة، سواء في محافظة الحسكة التي توالي غالبية العرب فيها دمشق، أو حتى في منطقة تل أبيض شمال محافظة الرقة.
هناك خيارٌ آخر كشفت عنه أحداث الأيام الماضية. فالولايات المتحدة التي كانت تنتظر التدخل التركي في شمال سوريا منذ فترةٍ طويلة، سارعت إلى إبلاغ الأكراد بضرورة الانسحاب من منطقة منبج والعودة إلى شرق الفرات. بدأ الأكراد تنفيذ المهمة على مضض، وببطء شديد. تركيا التي لا تخفي نيتها للوصول إلى منبج، لا تزال في مرحلة نقل القوات إلى الداخل السوري وتبدو منشغلةً الآن بمحاولة مد سيطرتها إلى الغرب باتجاه عفرين، وليس إلى الجنوب باتجاه منبج. انسحاب القوات الكردية من منبج وتركيز القوات التركية على نقاط أخرى يشكل نافذة فرصة من نوع ما. فمنبج وعشرات القرى في محيطها، وصولاً إلى مناطق تبعد أقل من عشرين كيلومترا عن الحدود التركية، تنتظر من يستولي عليها بعد انسحاب الأكراد، وقبل وصول الأتراك. هذه المناطق تبعد أقل من 35 كيلومتراً عن محيط مطار كويرس في ريف حلب الشرقي. ولتقليص الزمن اللازم لعبور هذه المسافة يمكن الاستعانة بالمروحيات وتنفيذ عمليات إنزال جوي في أعقاب القوات الكردية المنسحبة من منبج ومحيطها.
تحتفظ روسيا اليوم بعدد غير قليل من مروحيات النقل Mi-8 التي تستطيع الواحدة منها نقل 24 جندياً مع عتادهم. وإذا ما اتخذ القرار، لن يكون من الصعب تقنياً نقل قوة تتراوح بين ألف وألفي جندي بواسطة المروحيات، وخلال فترة لا تزيد عن أربعة وعشرين ساعة. يُقال إن الطيران الروسي قد نفذ في مناسبتين على الأقل عمليات إنزال مظلي لعربات مدرعة لمساندة القوات المحاصرة في دير الزور، يوم كانت تلك القوات تتعرض لهجوم كبير من تنظيم «داعش» هذا العام. يمكن تكرار الشيء نفسه في منبج.
إلغاء اللقاء المقرر بين رئيسي الأركان التركي والروسي في 26 آب، ثم إلغاء زيارة بوتين إلى تركيا المقررة في 31 آب، يشير أيضاً إلى أن روسيا ليست مرتاحةً للعملية العسكرية التركية. يدرك الروس أن الأميركيين إنما زجوا بالأكراد أولاً وبالأتراك ثانياً إلى هذه المنطقة، لتشكيل عامل ضغط على الوجود الروسي. يمكن أن تكون هذه فرصة الروس للرد. ولنتذكر هنا أن محاولة الروس للتقدم نحو الطبقة في حزيران الماضي لم تكن سوى محاولةً لقطع الطريق على الأميركيين. بالسيطرة على منبج ومحيطها، لا يبقى أمام القوات التركية سوى شريط ضيق يقل عرضه عن عشرين كيلومتراً، وهذا ما يقوض خطط تركيا بشكل كبير. عودة القوات السورية إلى ضفة نهر الفرات، وإلى أحد المعابر القليلة الباقية على هذا النهر، تسقط أيضاً مقولة «سوريا المفيدة» وتشجع الراغبين بالتحرك ضد أصحاب النزعات الانفصالية. دمشق ليست تماماً من دون خيارات، والمذكور أعلاه هو مجرد محاولة للتفكير بصوت مرتفع. ومرةً أخرى نختم الكلام بالقول بأن التحرك، لا الرهان على الآخرين، هو الخيار الصائب.
محمد صالح الفتيح / فارس
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق