قراءة موضوعية لتغطية قناة الجزيرة للأحداث في سوريا
بعيد إنطلاقها في عام 1996، استطاعت قناة الجزيرة القطرية أن تتربع في وقت قصير على عرش المحطات الاعلامية في العالم العربي، وبنت رصيداً كبيراً لدى المشاهد العربي من خلال أداء حرفي لا يمكن إنكاره، واعتماداً على شبكة واسعة من المراسليين والاعلاميين الحرفيين، وتناولت العديد من القضايا التي تمس المواطن العربي بجرأة في الطرح، متجاوزة بذلك الكثير من القيود والخطوط الحمر التي كانت تقيد الاعلام العربي الرسمي. إلا أن الجزيرة اليوم لم تعد كما كانت عليه في السابق وانحدرت مكانتها في الشارع العربي وانخفضت نسبة متابعتها إلى حد كبير، لا سيما بعد تغطيتها المثيرة للجدل لأحداث “الربيع العربي” وما تبعه من أزمات في كل من سوريا وليبيا واليمن.
ولعل الأزمة السورية وسياسة القناة القطرية في تغطيتها، شكلت العلامة الفارقة في السيرة المهنية لقناة الجزيرة، حيث رأى الكثير من النقاد والمراقبين، أن أداء قناة الجزيرة تجاه الأحداث في سوريا تخطى الدور الاعلامي المهني في نقل الحدث، إلى لعب دور مباشر في صناعة الحدث وتوظيفه لخدمة أجندات سياسية إقليمية ودولية فهذه النقلة في أداء الجزيرة، أحدثت عاصفة كبيرة من الانتقادات سواء داخل المحطة أو خارجها دفعت عدد كبير من اعلاميين الجزيرة لتقديم استقالاتهم اعتراضاً على السياسة التحريرية للقناة.
وهنا وبالرغم من الخطاب الحاد الذي يتصف به الاعلام هذه الأيام، نسعى في هذا المقال لتقديم قراءة موضوعية حول سياسة قناة الجزيرة في تناول الشأن السوري، وتداعيات هذه التغطية على المتغيرات الحاصلة في هذا البلد، وفيما يلي نجمل أهم النقاط التي اتصفت بها تغطية قناة الجزيرة في الشأن السوري:
لقب “الثورة”
تعمد قناة الجزيرة وخلافاً لتعريفها للأحداث في البلدان الأخرى، إلى إطلاق لقب “الثورة” على ما يجري في سوريا، فوفق مصطلحات القناة القطرية فإن ما يجري في اليمن “أزمة”، وفي العراق “صراع”، إلا أن الأحداث في سوريا وبالرغم من كل تعقيداتها، وصعود الجماعات الارهابية، وتدخل القوى الإقليمية والدولية، ما تزال بالنسبة للجزيرة تمثل “ثورة” من أجل الحرية والكرامة، بل إن اخفاق ثورات “الربيع العربي” في مصر وليبيا وتحولها في الأخيرة إلى حرب أهلية نتيجة عدم استيفائها لمقومات الثورة، لم يشكل حافزاً لإدارة القناة لإعادة النظر في هذه التسمية التي تنطلي على مغالطة كبيرة، فالقناة القطرية تتناسى عن عمد أن غالبية الشعب السوري المقيم في سوريا، يعيشون ضمن مناطق سيطرة النظام السوري، ولا تتطرق بشكل من الأشكال إلى الحياة الطبيعية التي يزاولها هؤلاء الناس في ظله، وأنهم لو كانوا في حالة ثورة، لكانوا نفّذوا إضرابات أو مظاهرات، أو حركات احتجاجية، أو على الأقل لكانوا هاجروا إلى مناطق المسلحين، ولما كانوا شاركوا في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، والتي تناقلت وسائل الاعلام الاقبال الملحوظ عليها، سواء داخل سوريا أو خارجها، وهذا كله دليل على أن الحالة المعارضة الموجودة في سوريا لا ترقى بحال من الأحوال إلى صفة الثورة.
التلفيق والتضليل
حيث برزت خلال سنوات الأزمة السورية الكثير من الشواهد على صناعة الأحداث وإملائها وتزوير الحقائق، مدفوعة بسياسة التحريض التي تهدف إلى إسقاط النظام السوري بأي ثمن، ولاشك بأن المواطن العربي مازال يتذكر العديد من الأسماء الذين صورتهم قناة الجزيرة على أنهم ضحايا مدنييون سقطوا بنيران النظام السوري، ليتبين فيما بعد أن من قتلهم هم الجماعات المسلحة، لتوظيف صورهم ودمائهم ضد النظام السوري، يكفي لأن تضع في محرك البحث عبارات مثل “ساري ساعود”، “زينب الحصني”، “مالك سليمان”، للوقوف على مدى التزوير الفاضح الذي ترتكبه هذه القناة.
وفي فترة سابقة كشف الاعلامي رفيق لطف عن تسريبات مسجلة لطريقة اعداد مراسلي الجزيرة للتقارير الميدانية، حيث ظهر في التسجيلات “الناشطون” وهم يلقنون الأطفال ما عليهم قوله، ضمن ما زُعم أنه ملحق لمشفى ميداني، يضم عدد من الممثلين على أنهم جرحى. وليس بآخر هذه الفصول من التلفيق والتزوير، التقارير التي بثتها قناة الجزيرة عن مجاعة تحصل في مضايا بسبب حصار الجيش السوري وحزب الله لهذه المنطقة، وقد استخدمت المحطة صوراً لأشباه هياكل عظمية التقطت في مناطق أخرى وفي أوقات سابقة بعضها يعود لأحداث خارج سوريا، على أنها صور لأبناء مضايا الذين يجوعهم النظام، وقد كشف الصليب الأحمر الدولي زيف هذه الإدعاءات وأكد أنه قام بإخلاء جميع الحالات الحرجة من مضايا والزبداني والفوعة وكفريا منذ وقت قريب، وأن قوافل الأمم المتحدة قد أرسلت شحنات غذائية للمدينة تكفي لشهرين.
هذا الاسلوب التضليلي لقناة الجزيرة كان واضحاً إلى درجة أن صحيفة “الاندبندنت” أكدت أن التغطية الاعلامية التي تقوم بها قناة الجزيرة للأزمة في سورية غير دقيقة بشكل خطير، وضربت مثالاً على ذلك التقارير التي بثتها قناة الجزيرة عن القصف والدخان في منطقة “تلكلخ” بينما الوضع كان هادئا فيها.
العديد من الاعلاميين الذين تركوا قناة الجزيرة احتجاجاً على سياستها التحريرية، كالاعلامي علي هاشم أكدوا أن قناة الجزيرة طلبت منهم عدم نقل مشاهد المسلحين الذين كانوا يضربون الجيش السوري في بداية الأحداث عام 2012، وأن القناة دفعت خمسين ألف دولار لتهريب هواتف ووسائل اتصال عبر الأقمار الصناعية للمعارضين في الداخل السوري.
ازدواجية المعايير
لم تتطرق الجزيرة في تقاريرها إلى المآسي الإنسانية التي يعيشها مؤيدي النظام السوري نتيجة مواقفهم السياسية، ولم تأت على ذكر أي من الجرائم التي يرتكبها المعارضون بحق المدنيين من مؤيدي النظام، وتغيب عن الجزيرة التقارير التي أوردتها منظمة العفو الدولية عن جرائم الحرب التي يرتكبها المسلحون، إذ أننا لم نرى أي تقارير من الجزيرة تتحدث عن الوضع الانساني للمناطق التي تحاصرها المعارضة المسلحة، وكأن الناس الأبرياء من نساء وأطفال وشيوخ الذين يعيشون في دير الزور والفوعة وكفريا ليسوا ببشر!، لم تسلط الجزيرة الضوء على عمليات الاختطاف التي قامت بها الجماعات المسلحة بحق النساء والأطفال من العلويين في مناطق ريف اللاذقية، ولم تتحدث عن المجزرة التي ارتكبتها جبهة النصرة في قرية الزارة في ريف حماه والفظائع التي ارتكبت فيها. فالجزيرة ما تزال تعمل على تلميع صورة هؤلاء المسلحين بالرغم من جرائمهم المفضوحة التي يتفاخرون بها على الشبكة العنكبوتية، بل ولا تميّز بين معارضة “معتدلة” – إن وجدت- وأخرى متطرفة، فكلهم بالنسبة للجزيرة “ثوار”، وخصوصاً جبهة النصرة الارهابية، والتي لا تخفى العلاقة بين الطرفين، واللقاءات الحصرية التي تمنحها الجماعة الارهابية للجزيرة.
الفتنة الطائفية
في وقت مبكر من انطلاق الأحداث في سوريا، والجزيرة تسعى لتصوير ما يحدث فيها على أنها صراع سني-شيعي، وقد أقيمت العديد من البرامج وحلقات الحوار حول عناوين مثل “من المسؤول عن تحويل الثورة السورية إلى صراع شيعي سني؟” هل هم السنة أم الشيعة!، وبثت الجزيرة بكل جرأة تصريحات “الجولاني” زعيم جبهة النصرة حول “ثأرهم” مع العلويين، وزخرت حلقات برنامج الاتجاه المعاكس الشهير، بالكثير من الانفعالات والتحريض وإثارة مشاعر الكراهية ضد الفريق الآخر، وذلك في مسعى واضح لتعبئة وتجييش جمهور أهل السنة خلف ما يجري في سوريا، بعد أن عجزت كل مساعي شيطنة النظام السوري عن توفيز الزخم اللازم لاسقاطه. وهنا تختفي الكثير من الحقائق عن شاشة الجزيرة، فيغيب الحديث عن أن المئات من الشهداء من أهل السنة بما فيهم الأطفال قد سقطوا بسبب قذائف “جيش الفتح” على مدينة حلب، وأن الكثير من جنود الجيش السوري الذين يأسرهم المسلحون ويقتلونهم هم كذلك من أهل السنة، وأن السنة يهربون من مناطق المسلحين ويأوون إلى مناطق النظام، وأن المدن السورية في طرطوس واللاذقية ذات الغالبية العلوية، مملوءة من أهل السنة، وأن المناطق التي يسيطر عليها المسلحون خالية من أحد من بقية الطوائف، فيما مناطق النظام تعيش فيها كل الطوائف جنباً إلى جنب.
تمييع المقاومة
وذلك لحرمان النظام السوري من أحد أهم عوامل التأييد داخل سوريا وخارجها، إذ أن مقاومة العدو الاسرائيلي، ودعم حركات المقاومة تمثل أحد أهم عوامل شعبية النظام السوري في الداخل والخارج، وقد حاز الرئيس بشار الأسد وفق استطلاعات الرأي في عام 2008 على لقب الرئيس الأكثر شعبية في العالم العربي، وذلك بسبب تبني خيار المقاومة الذي يمثل حيزاً هاماً من الكرامة العربية، ومن حق النظام السوري أن يستثمر في نقطة القوة التي يمتلكها، والتي ضحى ودافع لأجلها على مدى عقود، فيما كانت الدول الأخرى ترتمي في أحضان الكيان الاسرائيلي، إلا أن سياسة قناة الجزيرة تقوم على حرمان النظام السوري من هذه النقطة من خلال تمييع المقاومة والدور الذي لعبته سوريا في الصراع العربي الاسرائيلي. كثيراً ما تتردد في برامج الجزيرة عبارات استهزاء واستهتار بالممانعة والمقاومة، حيث تناست الجزيرة أن الموضوعية تقتضي بحفظ إيجابيات الطرف المقابل مهما بلغت درجة الخصومة، خاصة وأن الطائرات الاسرائيلية استهدفت المواقع السورية عدة مرات خلال سنوات الأزمة، واغتالت طائراتها العديد من رموز المقاومة على الأراضي السورية أمثال الشهداء “سمير القنطار” و “جهاد مغنية” في دلالة واضحة على الخطر الذي ما تزال سوريا تشكله على العدو الاسرائيلي.
وقد نالت قناة الجزيرة الكثيرة من الثناء من الأوساط الاسرائيلية، على الدور الذي تلعبه في التحريض على سوريا وحزب الله ومحور المقاومة، الأمر الذي يقتضي من المتابع العربي الكثير من التأمل قبل متابعة هذه المحطة.
غرفة عمليات
تستنفر قناة الجزيرة لأي تقدم بسيط تحرزه الجماعات المسلحة، وتسهم إلى حد كبير في الحرب النفسية من خلال استباق الأحداث والاعلان عن سقوط مناطق قبل حدوثها، لدفع أهالي تلك المناطق لاخلاء بيوتهم وتسهيل دخول المسلحين، وفي الوقت نفسه تتعامل مع التقدم الذي يحرزه الجيش السوري بفتور كبير، للتقليل من أهمية الانتصارات التي يحرزها. كثير من المراقبون وصفوا قناة الجزيرة بغرفة عمليات حربية، أكثر من كونها محطة اعلامية، إلا أن هذا الدور ألحق في بعض الأحيان الضرر بالجماعات المسلحة نتيجة اندفاع المسلحين إلى مناطق لم تتحرر بعد، بعد أن أعلنت الجزيرة تحريرها.
في الذكرى العشرين لانطلاق قناة الجزيرة، قد تجد الجزيرة ما تحتفل لأجله بوصفها أداة ناجعة لتحقيق مآرب سياسية، لكنها قد لا تجد ما يسوغ لها الاحتفال كمحطة اعلامية نزيهة.
المصدر / الوقت