العجز التركي في مدينة الباب
بعد عجزها عن رسم الحدود القصوى والدنيا للمعارك المشتعلة في الشمالين السوري والعراقي، تراجع جموح الأهواء التركية في عملية “درع الفرات”.
ومن هذا المنطلق، جاءت تصريحات أنقرة من على لسان نائب رئيس وزراء تركيا محمد شيمشك في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس مؤكداً أنّه ” لم يعد بوسع أنقرة أن تصر على تسوية الصراع في سوريا بدون مشاركة الرئيس بشار الأسد إذ إن الحقائق على الأرض تغيرت كثيراً”.
الرضوخ السياسي التركي لحقائق الأرض، تطوّر ميدانياً، لتتحدّث مصادر إعلاميّة عن رضوخ ميداني مشابه، موضحةً أنّ “كلاً من موسكو وأنقرة اتفقتا على تجميد العمليات القتالية التي تخوضها المعارضة إلى جانب الجيش التركي في الباب وترك المهمة لقوات الجيش السوري وحلفائه. وقد نقلت إحدى تنسيقيات المسلحين عن مصدر عسكري مشارك في اجتماعات “استانة” قوله “إن الحكومة التركية ألغت العملية العسكرية على مدينة الباب في حلب “مؤقتاً”، ونقلت عنه “أن جهاز الاستخبارات التركية تواصل مع بعض الممثلين للفصائل العسكرية في تركيا، وأبلغهم بإيقاف العملية العسكرية على مدينة الباب”.
التراجع التركي يأتي بعد مقتل 5 جنود أتراك، وإصابة 9 آخرين، جراء هجوم لتنظيم داعش الإرهابي بسيارة مفخّخة بمنطقة الباب بالريف الشرقي لحلب. ليس هنا القصد أن الجنود القتلى هم سبب التراجع، بل إن أنقرة وبعد ما يقارب خمسة أشهر على انطلاق العملية العسكرية التركية في الشمال السوري، لم تتمكّن حتّى الساعة من تحقيق هدفها المعلن من العملية و هو “إبعاد الخطر الإرهابي عن العمق الداخلي لأراضيها”، بل ما حصل هو العكس تماماً وفي العمق التركي.
مدينة الباب
لطالما أولت تركيا أهميّة كبرى لمدينة الباب، إلا أن الجيش التركي فشل بعد أكثر من شهر على بدء التمهيد الناري المكثف، وعشرات الغارات التي لا تُترجم عملياً على الأرض، إلا بالتقدّم البرّي.
التراجع التركي تزامن مع الإعلان عن أولى الضربات الجوية التركية الروسية المشتركة على مواقع تنظيم داعش الإرهابي في هذه المدينة التي تعد من أواخر معاقل التنظيم المهمة في محافظة حلب، وقد حاول الجيش التركي إظهار نفسه بهيئة المنتصر بالأمس، معلناً أنه قتل أمس 23 من مسلحي التنظيم ودمر 224 هدفا لهم في إطار عملية درع الفرات.
الفشل التركي في المدينة “الاستراتيجية” التي تشكّل نقطة وصل بين الكنتونات الكرديّة في سوريا، وسقوط طموحات أردوغان الذي قال مؤخرا إن اقتحام مدينة الباب سيكون قريباً، لن يفتح الطريق أمام قوات “وحدات حماية الشعب” التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) في سوريا، والتي ستكون عرضة للنيران التركيّة التي قد تنقضّ عليها من جرابلس نحو منبج.
أسباب و دلالات
إن التراجع التركي الميداني والسياسي يأتي في ظل بروز جملة من المتغيّرات الإقليمية، ويمكن رصد أسبابها في عدّة نقاط، أهمّها:
أولاً: يعد نصر حلب الاستراتيجي أحد أبرز أسباب التراجع التركي، خاصّة أنه غيّر المعادلة السورية رأساً على عقب على الصعيدين الميداني والسياسي. لو نجحت تركيا في تنفيذ مشروعها في حلب، لما تراجعت عن خيار رحيل الأسد، كما أن التقارب مع روسيا لم يكن ليصل إلى هذه المرحلة، فضلاً عن محادثات الأستانة.
ثانياً: لقد أخفقت تركيا في فرض معادلاتها عبر إحداث إنجازات تذكر الأزمة السورية، أحد أبرز ملفات المنطقة الرئيسة. تركيا التي تعيش حالة من المنافسة مع إيران والصراع مع مصر، لم تصل إلى نتائج ملموسة مع السعودي، لتجد ضالتها في التقارب مع روسيا. يبدو واضحاً أنه بعد تولّي يلدريم رئاسة الحكومة بعد ترؤسه حزب العدالة والتنمية في مايو/أيار 2016، قامت تركيا بسلسلة من المراجعات والتراجعات في السياسة الخارجية التركية، إلا أن “الانقلاب الفاشل” حال دون تنفيذها بشكل أسرع.
ثالثاً: التراجع السياسي والميداني التركي يأتي في ظل توتّر العلاقة مع حلفائها الغربيين بدءاً من الاتحاد الأوروبي وصولاً إلى أمريكا ومروراً بالناتو. في الحقيقة، لا يمكن لتركيا أن تستعدي كافّة الأطراف، وبعد أن لمست من الرئيس ترامب موقفاً مغايراً لسلفه أوباما، لاسيّما فيما يخص معارضته لإسقاط الرئيس الأسد، سارعت لحصد مقعد إلى جانب روسيا، حليف سوريا الدولي. هذا التحالف قد يفرض عليها جملة من التراجعات والمراجعات، مقابل حصولها على جملة المكاسب.
رابعاً: إن استعادة الجيش السوري وحلفائه لمدينة حلب، وإدراك الجانب التركي بقاء سوريا موحّدة خفّف من هواجسها لناحية إقامة إقليم كردي يصل كانتوني الجزيرة وعين العرب (كوباني) مع كانتون عفرين. سوريا، ومن خلفها إيران، تعارض أي مشروع تقسيم للبلاد، فقد أوصل وزير الخارجيّة الإيراني محمد جواد ظريف هذه الرسالة إلى نظيره التركي قبل فترة، ما شكّل حالة من الاطمئنان النسبي لدى أردوغان. أنقرة كانت تطمح لإقامة إقليم “تركي الهوى” تحت قيادة الجيش التركي الذي يشارك في عملية “درع الفرات”، إلا أن إسقاط هذا المشروع في حلب، حال دون ذلك، وارتضت القيادة التركي بالبديل السوري، خشية فتح الباب أمام داعش والأكراد.
خامساً: لم يقتصر التعقّل التركي، الذي جاء بفعل الميدان لا السياسة، على سوريا، بل لمسنا تراجعاً تركيّاً مماثلاً في العراق، ما دفع بها إلى التقارب مع بغداد وتقديم تنازلات مبدئية في موضوع معسكر بعشيقة.
المصدر / الوقت