نظرة في مستقبل العلاقات الأمريكية الروسية في العهد الجديد
ليس من المبالغة القول إن الانتخابات الرئاسية الأخيرة لاختيار الرئيس الخامس والأربعين لأمريكا كانت استثنائية بكل ما للكلمة من معنى. حيث أوصلت إلى سدة البيت الأبيض شخصية أقل ما يمكن أن توصف به أنها مثيرة للجدل.
فبعد أن كان فلاديمير بوتين الشخصية الأكثر استفزازا للرئيس الأمريكي السابق أوباما، أضحى نجم خطابات الرئيس الأمريكي الجديد الذي اعتبره حاد الذكاء، ويعلم كيف يصل لكل ما يريده. ذاهبا إلى أبعد من ذلك حيث دعا وبشكل واضح وصريح إلى تطبيع العلاقات مع موسكو لتكون شريكا قويا لأمريكا لا عدوا. كلام أتى وسط تركة ثقيلة من عهد أوباما تخص الملف الروسي، فبوتين تمكن رغم أنف المجتمع الدولي من استعادة الهبة التي قدمها سابقا خورتشوف لأوكرانيا وإعادة ضمها إلى الأراضي الروسية وأقصد هنا ضم القرم وما كان له من ردات فعل غربية. كما أن بوتين تمكن من قلب المعادلة في الحرب الكونية التي تخوضها الجماعات التكفيرية في سوريا نيابة عن الأعراب ومن خلفهم أمريكا. خطوتان ليستا يتيمتين في مسير صراع أوباما – بوتين ولكنهما الأبرز في التركة الأوبامية.
بجرأة يمكن القول إنه ومنذ حوالي العقد من الزمن، وتحديدا بعد الركود الاقتصادي الذي ضرب العالم عام 2008 بدأت مرحلة خلط أوراق وإعادة تموضع عالمية من قبل القوى الكبرى، ليعود العالم إلى مرحلة تعدد الأقطاب. “جون ميرشايمر” بروفسور العلوم السياسية في جامعة هارفرد الأمريكية ومنظر دولي شهير يقول إن العالم اليوم أصبح ذو ثلاث أقطاب “أمريكا، الصين وروسيا”. أما حول مرحلة استعادة الروس لدورهم كقطب عالمي، والتي أتت متزامنة مع وجود أوباما في سدة البيت الأبيض، سعى خلالها الروس وفي خطوات عملية لتثبيت موقعهم الجديد، وتثبيت عمقهم الاستراتيجي بشكل قوي وفاعل ودون أن يأبهوا لساكن البيت الأبيض الذي لم يملك سوى سلاح العقوبات والاتهامات التي لم تمنع الروس من استعادة القرم، ولا من دخول سوريا وقلب المعادلة ولم يتمكن حتى من إضعاف الاقتصاد الروسي ولا زعزعة الاستقرار الروسي الداخلي، والقرم عادت إلى الحضن الروسي، سوريا أيضا حافظت على وجودها بل وحققت إنجازات كثيرة في مكافحة الارهاب الذي يضربها وبقي الأسد رئيسا رغم كل شيئ.
كل هذه الأمور اعتبرها دونالد ترامب تفاصيل يمكن تجاوزها وبناء علاقة مع الدب الروسي، قائلا خلال حملته الانتخابية وبصريح العبارة “أنا أعتقد بأني أستطيع وبشكل جيد جدا أن أتفق معه (بوتين) وخلال رئاستي لا أعتقد أننا سنعاني من المشاكل الموجودة في العلاقة اليوم (مع روسيا)”.
هذا وصرح مرارا عن علاقات صداقة مع روسيا والتعاون في مواجهة تنظيم داعش الإرهابي. في وقت كانت هيلاري كلينتون وفريقها يسعون للتصويب على هذا الأمر بالتعاون مع وسائل الإعلام الأمريكي الذي اعتبر تصريحات ترامب نقطة ضعف يجب التصويب عليها. بل وزادوا على ذلك اتهام المخابرات الروسية بالتدخل بالانتخابات الجارية، واختراق البريد الالكتروني لهيلاري كلينتون وتزويد ويكيليكس بالرسائل التي بودلت من خلاله.
الاستخبارات الأمريكية CIA بدورها أكدت في تقرير لها أواخر حكم أوباما أن الروس تدخلوا في الانتخابات الأمريكية، وكانت ردة فعل ترامب حينها كرئيس منتخب الانتقاد الشديد لهذا التقرير وللأخبار المفبركة التي يصدرها هذا الجهاز.
ولكن ما لبث أن تسلم ترامب بشكل فعلي سدة الرئاسة، حتى بدأت الأمور تختلف وكأن أشياء كثيرة قد تغيرت.
“نيكي هالي” المندوبة الأمريكية الجديدة في الأمم المتحدة كانت أول المسؤولين في الفريق الرئاسي الجديد التي بدأت بمهاجمة الروس، منتقدة الأعمال العدائية الروسية في أوكرانيا، مؤكدة على استمرار العقوبات التي فرضت على روسيا بعد سيطرتها على القرم. هذا الأمر جعل مسؤولاً رفيعاً في الدوما الروسي يعلق قائلا: “وكأن ما قرأته المندوبة الأمريكية الجديدة في الأمم المتحدة كان متنا من كتابة “سامانثا باور” (المندوبة السابقة)” في تأكيد روسي واضح أن الأمور لم تختلف ولو اختلف ساكن البيت الأبيض.
الجديد أيضا بعد تسلم ترامب كان مشروع القانون الذي طرح في الكونغرس، والحائز على شبه إجماع جمهوري ديمقراطي، والذي يقضي بمنع رفع أي عقوبات عن روسيا دون موافقة الكونغرس الذي يعج بالمعادين لروسيا ديمقراطيين كانوا أو جمهوريين.
لم تنته المسألة هنا. “مايكل فلاين” والذي شغل منصب مستشار الأمن القومي في فريق ترامب، وخلال الأسابيع التي شغل بها منصبه، كان شغله الشاغل انتقاد إيران ومهاجمتها. ليجبر يوم الاثنين الفائت على تقديم استقالته بعد أن تبين أنه كان على تواصل مع السفير الروسي في واشنطن قبل تسلم ترامب الرئاسة. وفي خطاب استقالته أذعن أنه أجرى اتصالات عديدة مع السفير الروسي جرى الحديث خلالها عن رفع العقوبات الأمريكية على روسيا. هذا الأمر قوبل من قبل ترامب بالتذمر من تسريب المعلومات خارج البيت الأبيض دون الإشارة إلى حساسية الأمر الأمنية.
وفي نفس السياق كانت وسائل إعلامية أمريكية تعد من الفريق المؤيد لترامب قد نقلت مؤخرا خبرا مفاده أن سفن تجسس روسية وللمرة الأولى بعد دخول ترامب البيت الأبيض رصدت مقابل الساحل الشرقي الأمريكي تتجه شمالا على فاصلة تبعد سبعين ميلا وبسرعة عشر عقد بحرية.
خلاصة القول إنه وعلى رغم التصريحات التي أطلقها دونالد ترامب حول التقارب الأمريكي الروسي، والتفاؤل الذي ظهر مؤخرا حول تحسن العلاقات، كل ذلك لم يكن سوى فقاعات لا يمكن أن تترجم بهذه السهولة التي كان يعتقدها ترامب. والتطورات الأخيرة تؤشر بقوة لاستمرار الخصومة بين القطبين على الساحة الدولية حتى إشعار آخر.
المصدر / الوقت