وصفة السياسي ووصفة الشاعر
ثقافة ـ الرأي ـ
في وصفين بالغين مختلفين ليوغسلافيا، وصف الزعيم السياسي تيتو يوغسلافيا عشية سقوط بلغراد على يد الألمان، بقوله” ان يوغسلافيا عبارة عن حروف مختلفة، مكتوبة بـ “السيريالية واللاتينية”، وثلاثة أديان:الأرثوذكسية والكاثوليكية والإسلام، وأربع أمم: الصرب والكروات والسلافيين والمقدونيين، وخمس لغات:السلوفينية، والصربوكرواتية، والمونتلنجزية، والمقدونية، والألبانية، وست جمهوريات: سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة والجبل الأسود والصرب ومقدونيا.
1
كانت الكراهية منتشرة مثل السحابة تغطي يوغسلافيا كلها بين الصرب الأرثوذكس الذين تعاونوا مع روسيا الارثوذكسية الستالينية، والكروات الكاثوليك الذين تعاونوا مع ألمانيا الكاثوليكية النازية والكوسوفيين المسلمين المتعاونين مع تركيا، ثم مع ألمانيا لاحقا، لذلك رأى تيتو أن إيقاف الكراهية الدينية والطائفية والقومية لا يتم إلا عن طريق جيش اتحادي قوي وباطش، وايديولوجية الحزب الواحد، وبذلك استطاع أن يوقف الكراهية أربعة عقود.
لكن الكراهية لم تمح من القلوب، بقيت كامدة، خامدة، ثم استيقظت بعد موته.
يتذكر تيتو حجم الكراهية أيام الحرب العالمية الثانية، فتصفية الحسابات” لم تكن مقتصرة فقط على ما كان يرتكبه الصرب والكروات، من جرائم في حق الكوسوفيين، ولكنها كانت تجري، كذلك، بين الصرب والكروات أنفسهم. إذ كان الكروات يهاجمون القرى الصربية، ويقومون بحرق أهلها وذبحهم، والتمثيل بجثثهم.
وكانوا، وهم يفعلون ذلك، يرتدون الثياب التركية، ويتنادون بأسماء إسلامية، حتى تُنسب هذه الأفعال إلى الكوسوفيين، فيتعرضون لثأر الصربيين وانتقامهم والحادثة الثانية، هي حادثة “نوجا” المشهورة، التي وقعت في سبتمبر 1941، حين كان الرجال الكوسوفيون يخوضون الحرب، في أتون الحرب العالمية الثانية، فاستغل الصرب غيابهم، وجمعوا الأطفال والنساء والشيوخ من بعض المدن، واقتادوهم إلى سهل “نوجا”، وأطلقوا عليهم النار حتى أبادوهم جميعاً، ثم قذفوا بهم في نهر “درينا”. وهم ينشدون أغانيهم القديمة المتوارثة: “تعالوا نذبح أبناء الأتراك”.
وأدرك تيتو أن تجانس هذا التنوع لن يتم إلا عن طريق قوة السلطة الغاشمة، جيش واحد، وايديولوجية الحزب الواحد، وهي الخطة ذاتها التي استخدمها صدام، في السيطرة المطلقة على الناس والبلد، وكان أنموذج ستالين أو وصفة ستالين هي ذاتها وصفة الطبخ المفضلة لكل من تيتو وصدام، وكلما تفلتت الأمور، وعمت الفوضى، يرجح الناس أن العودة إلى وصفة ستالين هي الوصفة الوحيدة الناجحة.
2
بعد وفاة تيتو العام 1980 عادت الكراهية من جديد تملأ قلوب المجموعات الثلاث، استعد الصرب الأرثوذكس”بنحو 150 ألف جندي نظامي، إلى جانب احتياطي يقدر بنحو نصف مليون جندي.
ويمتلكون قرابة ألف دبابة، و1500 عربة مدرعة، و1400 مدفع هاوتزر، و200 راجمة صواريخ متعددة المواسير، و6500 هاون، ولواءَي صواريخ أرض- أرض، (سكود ـ ب)، ولواء صواريخ تكتيكية أرض ـ أرض (لونا)، و300صاروخ أرض ـ جو قصير المدى (محمول على الكتف)، و250 منصة صواريخ أرض ـ جو، و400 مدفع مضاد للطـائــــــرات.
يدعم هذه القوة البرية حجم من القوات الجوية، يقدر بنحو 500 طائرة قتال، و250 طائرة عمودية، هجومية ونقل.
أمّا حجم القوات البحرية، فيقدر بنحو 5 غواصات، و4 فرقاطات صواريخ، و50 زورق دورية مسلح، وخفر سواحل، و15 سفينة رص وإزالة ألغام، و35 سفينة إبرار بحري، و5 سفن مساعدة، للإمداد والإصلاح. ويوجد من هذه القوات تحت التصرف المباشر لقائد صرب البوسنة، 130 ألف جندي عامل واحتياطي، و300 دبابة، و200 عربة مدرعة، و600 مدفع.
واستعد الكروات، الكاثوليك الذين نقضــوا تحالفهم مع المسلمين في البوسنة، فقد كانوا يحتفظون بنحو 60 ألف مقاتل و50 دبابة، ومثلها من العربات المدرعة، إضافة إلى نحو 60 قطعة مدفعية، وعدد من الطائرات العمودية.
وكانت لهم محاور إمداد متصلة، ومستمرة، مع الجمهورية الأم، كرواتيا، تمدهم، رأساً من العاصمة الكــــرواتية، زغرب، بالأسلحة والذخــــائر والمعــدات والمواد الحربية، التي يحتاجون إليها.
إلا أنه يلاحظ من سير الأعمال القتالية، أن القوات الكرواتية في البوسنة، كانت أفضل تنظيماً وتدريباً وتسليحاً من القوات الصربية، كذلك في نواحي المهارة القتالية.
الأمر الذي انعكس في دقة تنظيم وتخطيط وإدارة عملياتهم القتالية. وكان الكروات قد أنشأوا “مجلس الدفاع الكرواتي”، لتخطيط وإدارة العمليات الحربية، والقيام بمهام القيادة والسيطرة على المستوى الاستراتيجي.”
واستعد البوسنيون المسلمون 1993 وهيؤوا جيشاً قوامه 125 ألف فرد، من مسلحين بأسلحة خفيفة (رشاشات وهاونات وصواريخ مضادّة للدبابات)، وعدد محدود من الأسلحة الثقيلة، القديمة، لا تتجاوز 60 دبابة و 30 عربة مدرعة، و50 مدفعاً.
وعلى الرغم من أن المسلمين في البوسنة، كانوا يسيطرون على نحو 40 بالمئة من المصانع الحربية، التي كانت تابعة للجيش اليوغسلافي الاتحادي السابق، لوجودها على أراضيهم، إلا أن معظم هذه المصانع توقفت عن العمل، بسبب فقدان المواد اللازمة وخاضوا معركة طاحنة تحت سقف الكراهية الدينية والطائفية والقومية، وخسر تيتو رهانه من أن قوة عسكرية واحدة وحزبا واحدا كفيلان بأن يقضي بهما على الكراهية .
3
لكن جارلس سيميك الشاعر الصربي الارثوذكسي والأميركي لاحقا له وصف مختلف ليوغسلافيا عن وصف تيتو السياسي فهو يشير في إحدى قصائده إلى أن الكراهية لا تزول بالقوة لكنها تختفي نهائيا بالحب.
يتذكر سيميك صور مبهمة عن سقوط بلغراد على يد الألمان، كان ذلك في العام 1941 كان الشاعر في عمر ثلاث سنين، لكن أمه فيما بعد أكملت له صورة الفرار من بيت الى بيت ومعها أطفالها الصغار بما فيهم سيميك، كان أبوه ناشطا شيوعيا ستالينيا، أرسله الألمان سجينا إلى إيطاليا، وبعد ثلاث سنين فر من السجن وقطع المحيط فارا الى أميركا، ثم جمعت الأم اطفالها وهربت في قطار إلى باريس، ومن باريس إلى شيكاغو.
كانت عائلته مهددة بالـــذبح أما على يد الكروات الكاثوليك أو على يد الكوسوفيين المسلمين،
انظر كيف تتشابه قصصنا، تهديد ورعب ومنفى.
أنا هربت الى كردستان، وانتظرت هروب عائلتي، زوجة مع أطفالها الصغار تقطــع طريق الخوف والرعب من بغداد إلى الموصل المكتظ بالسيطرات التي تدقق في العيون المرتابة أكثر من التدقيق في الهويات، ومن الموصل تقطع قرى مملوءة بالعسس والوشاة. كان أخي الأكبر معهم أركبهم في شاحنة حمل متجهة إلى أربيل، وفي اللحظة الأخيرة بعد ان عبرت العائلة الخط الفاصل قبضوا على أخي، كل العراقيين دفعوا الأثمان الغالية، كما دفعها جارلس سيميـــك ، الشاعر المؤمن بأن الحب السلاح المخلص من الكراهية التي وصفها بالقدرة الطارئة التي يمكنها تحويل إنسان إلى ذئب
“كانت المدينة ساقطة
جرجرنا رجل مجنون إلى نافذة بيت،الشمس الغاربة ألقت ضوءها على بعض مكائن مهجورة
طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق