غزة تقاتل: كابوس لبنان يراود “اسرائيل”
حلمي موسى –
لكن يومها لم يكن أفضل، إذ جاء ردّ المقاومة سريعاَ، وفي عمليات نوعية أوقعت الكثير من القتلى والجرحى في صفوفه، اعترف منها العدو بمقتل 13 من ضباط وأفراد لواء «جولاني» وإصابة أكثر من خمسين. وكان هذا أشد أيام الجيش الإسرائيلي حلكة منذ «حرب لبنان الثانية» وأشد أيام لواء «جولاني» سواداً منذ تأسيسه.
واستمرت المقاومة وإطلاق الصواريخ على “إسرائيل” في وقت يصر فيه العدو على محاولة فرض شروطه على المقاومة، في ظل تردد وخشية من التورط أكثر. وكان مدويّا الخبر الذي زفته «كتائب القسام» للشعب الفلسطيني في غزة بنجاحها في أسر جندي إسرائيلي، فخرجت الناس إلى الشوارع وامتلأت الأجواء بزخات الرصاص في ظل استمرار القصف. وأمام هذا الوضع كثفت الإدارة الأميركية من جهودها لإعلان وقف إطلاق نار فوري على أساس تفاهمات «عمود السحاب».
وعقد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، مؤتمراً صحافياً، على خلفية مقتل جنود لواء «جولاني» أعلن فيه أن “إسرائيل” لا ترتدع بسقوط القتلى وأنه «لا حرب محقة أكثر من هذه الحرب». وشدد على أنه كان يعلم أن هذه حرب مديدة، وأن الجميع يعلم أن “إسرائيل” لم تكن تريدها، لكن ما إن وقعت فستخوضها حتى تحقيق هدف فرض الهدوء لكل أجزاء “إسرائيل” جنوباً ووسطاً وشمالاً. وشدد على أن “إسرائيل” تتطلع لتوجيه ضربة قوية للبنى التحتية لحركة «حماس» والمنظمات الأخرى و«سنواصل بقدر ما يتطلب الأمر».
وحمّل وزير الدفاع الإسرائيلي موشي يعلون، في المؤتمر الصحافي، «حماس» مسؤولية سقوط الضحايا في صفوف الفلسطينيين، مشددا على أنها «المسؤولة عن كل ما يجري في غزة. عن كل إنسان يصاب وكل بيت يهدم». وحذر الإسرائيليين من أن «بانتظارنا أيام قتال طويلة. علينا أن نعض شفاهنا، ونبدي طول نفس وصبر. وسنواصل العمل بشدة من أجل إزالة خطر الصواريخ».
وكان الجيش الإسرائيلي قد اعتبر أن مهمته الحالية هي خوض «معركة الأنفاق». ولكن الأنفاق كما يعرف تبدأ في مكان ولا أحد يعرف أين تنتهي، لذلك فإن معركتها تبدأ من دون أن يعرف أحد أين تنتهي. وهذا ما حدث فعلا في العديد من المواضع، خصوصا في حي الشجاعية. فقد بدأت “إسرائيل” حملة بحث عن الأنفاق، وطلبت من سكان أكبر أحياء المدينة إخلاءه. وما لم يخل السكان الحي حتى شرعت بتنفيذ «عقيدة الضاحية» على الشجاعية من خلال إخضاع بيوته بشكل منهجي لقصف بحري وجوي وبري مركّز لتسهيل تقدم القوات البرية.
وعند وقت السحور، فجر أمس الأول، بدأ القصف المدفعي الهمجي الإسرائيلي على حي الشجاعية، ما أدى إلى استشهاد 60 مواطناً وما يزيد عن 400 جريح، من بينهم عائلات بأكملها، وفقاً لوزارة الصحة في غزة. القصف أدى أيضاً إلى تدمير مئات المنازل في مشهد دمار وخراب لا يمكن وصفه، بالإضافة إلى نزوح مئات العائلات الفلسطينية من الحي إلى مستشفى «الشفاء» في وسط مدينة غزة، هرباً من القصف في مشهد أشبه بنكبة جديدة.
كما سقط 40 شهيدا في مناطق أخرى من غزة. وارتفع بذلك العدد الإجمالي للشهداء الفلسطينيين منذ بدء العدوان الإسرائيلي في الثامن من تموز الحالي إلى أكثر من 440 شهيدا وأكثر من ثلاثة آلاف جريح.
ورغم العدد الكبير من الشهداء في الشجاعية من الأطفال والنساء والشيوخ، فإن المقاومين في الحي أصروا على الثأر، واستهدفوا وحدات لواء «جولاني»، خصوصا من قوة النخبة المعروفة باسم «إيغوز»، بعدة عمليات أزالت البسمة عن وجوه ساسة “إسرائيل”. وبعد مرور حوالي 20 ساعة على مقتل الجنود اضطر الجيش الإسرائيلي للاعتراف بمقتل 13 من أفراد اللواء وإصابة أكثر من خمسين. وبين القتلى والمصابين عدد من كبار قادة اللواء. وعلى الأغلب فإن نائب قائد اللواء قتيل، فيما اصيب قائد اللواء العقيد غسان عليان بجروح متوسطة، وهو في المستشفى. وعمد الجيش إلى انتداب قائد من فرقة أخرى لقيادة اللواء بعدما تضررت قيادة هذا اللواء بشكل أبطل فعاليتها.
وبحسب ما نشر فإن الكمائن التي أعدّها المقاومون لوحدات «جولاني» في «الأرض المحروقة» شكلت صدمة للقيادتين السياسية والعسكرية على حد سواء. فنظرية «صفر إصابات» و«الجيش التقني» و«العمليات الجراحية» تهاوت كلها تقريبا أمام جرأة المقاتلين في الشجاعية. وقد بدأت «مجزرة جولاني» باصطياد سبعة من الجنود في مدرعتهم بصاروخ ضد المدرعات، والإجهاز عليهم وإشعال المدرعة بهم. وفي عملية أخرى في المنطقة ذاتها اصطادت المقاومة مجموعة قيادية حاولت تأسيس مركز قيادي في بيت تم احتلاله، ففجرته وقتلت ثلاثة من الضباط وأصابت آخرين. وبعدها قتل المقاومون في اشتباكات جنديا من اللواء نفسه. وهجم مقاوم على مجموعة جنود واشتبك معها فقتل أحد أفرادها قبل أن يستشهد. وفجّر مقاوم نفسه في مجموعة من الجنود الآخرين وقتل آخر.
وكانت محصلة ليلة الشجاعية 13 قتيلا عسكريا إسرائيليا وإصابة أكثر من خمسين. وبذلك يبلغ عدد قتلى الجيش الإسرائيلي منذ بدء العملية البرية مساء يوم الخميس 18 جنديا. وكان أربعة جنود وضباط إسرائيليين قد قتلوا في معارك الأنفاق، حين اقتحم مقاومون من «كتائب الأقصى» محيط مستوطنات عبر أنفاق وأفلحوا في اصطياد دورية استطلاع قيادية للواء مدرعات، وقتلوا ضابطا برتبة رائد وجندي. كما قتل جنود آخرون في اشتباكات في محيط بيت حانون.
لكن التطور الأبرز على هذا الصعيد هو ما أعلنته «كتائب القسام» في وقت متأخر من ليلة أمس عن أسر، الجندي شاؤول أرون، وعرضت بطاقته ورقمه العسكري. وقد تجاهلت “إسرائيل” الخبر الذي هزّ غزة، وأخرج مسيرات فرح فيها وجعل صليات الرصاص تضيء سماء غزة المظلمة.
لكن مهما يكن الحال فإن غالبية المعلقين الإسرائيليين يعتقدون أن المقاومة أفلحت، بعد استيعاب صدمة اليوم الأول للعملية البرية، في مفاجأة “إسرائيل” بجرأتها وكثافة استعداداتها ومقدار سيطرتها على الميدان رغم الفارق الهائل في القوة النارية بين الطرفين. ويجزم بعض المعلقين أن استعادة «حماس» للتعادل في مواجهة الجيش الإسرائيلي في غزة يخلق معضلة مركبة: معنويات تحول دون القبول بشروط “إسرائيل”، وقتال قد يجر “إسرائيل” إلى معركة طويلة جدا في القطاع.
وهكذا نجد تعاظم التحركات السياسية لإخراج مفاوضات وقف إطلاق النار من دائرة الجمود التي وقعت بها تحت الإدارة المصرية. وأمس كانت العاصمة القطرية الدوحة مركزا لاتصالات عربية ودولية، سواء من جانب الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون أو من جانب الرئيس الفلسطيني محمود عباس في اتصالاته مع قيادة «حماس».
والتقى، أمس، عباس في الدوحة أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني وبان كي مون. وشجب وزير خارجية قطر خالد العطية المذبحة الاسرائيلية في الشجاعية، فيما وصف بان كي مون المعارك بين “إسرائيل” والفلسطينيين بأنها «جرح مفتوح وينبغي وقف النزيف فورا».
غير أن التحرك الأهم هو للرئيس الأميركي باراك أوباما الذي اتصل هاتفيا برئيس الحكومة الإسرائيلية معرباً، بعد تأييد لحق “إسرائيل” في الدفاع عن نفسها، عن «قلقه البالغ» من أعداد الضحايا من المدنيين. وأبلغ أوباما نتنياهو بقراره إرسال وزير خارجيته جون كيري إلى القاهرة وتل أبيب، للعمل على وقف فوري «للأعمال العدائية» بين الطرفين على أساس اتفاق «عمود السحاب» العام 2012 الذي كان أبرم بين “إسرائيل” وحماس برعاية أميركية ومصرية في عهد الرئيس المعزول محمد مرسي.
ويعتقد مراسلون إسرائيليون أن حكومة نتنياهو اليوم في معضلة، لأنها ستبدو ضعيفة إن خرجت من المعركة الآن رغم كل ما ألحقته من دمار وقتل في القطاع، فالمقاومة بقيت حتى الآن تقاتل كندّ وهي تراكم زخما وتأييدا شعبيا متزايدا يصعب تجاهله حتى في ظل منح دور واعتراف إسرائيلي بحكومة «التوافق» الفلسطينية. ومع ذلك يؤكد هؤلاء أن “إسرائيل” ستعمل على إقناع مصر بتلطيف موقفها من معبر رفح، في ظل تلميح بقناعة الدولة العبرية أن تطرف القاهرة في مناهضة «حماس» زاد الوضع تعقيدا.