هل عزلت سياسات ترامب أمريكا عن العالم فعلاً؟!
في الآونة الأخيرة وبعد خروج أمريكا من الاتفاق النووي، تحدّث الرئيس الإيراني حسن روحاني ووزير خارجيته محمد جواد ظريف عن العزلة الأمريكية، وأن خروج ترامب من الاتفاق سيعزل واشنطن وثلاث دول أخرى تتفق معها، بينما باقي العالم سيقف في الجهة المقابلة لهؤلاء.
وفي هذا السياق قال كتاب ومحللون إن العزلة التي تواجهها أمريكا اليوم هي بسبب سياسات ترامب غير المدروسة وقربه من اليميني المتطرف في أمريكا، ويمكن رصد عودة العزلة التي شهدتها أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية عبر عدة مظاهر، وهي لغة ترامب وشعاراته، ونزعته القومية الضيقة، ونظرته المستريبة لعلاقات أمريكا مع العالم، والنظر إلى تلك العلاقات من منظور المباراة الصفرية، والمطالبة بإدارتها بمنطق الصفقات التجارية، وليس بمنطق الاستثمار الاستراتيجي، وعلى مستوى السياسات تبدو العزلة في النزوع نحو تفكيك التحالفات الاستراتيجية بدعوى التكلفة، والتعامل معها كمشروع تجاري يدار بمنطق الربح، والسياسات الحمائية، وبدء الخروج من اتفاقيات التجارة الحرة، وفي هذا السياق خرج ترامب من اتفاقية باريس للمناخ، ثم اتفاقية التجارة الحرة، وأعلن الحرب على الأمم المتحدة، وقلّص المساهمة في ميزانيتها، ويمكن اعتبار قرار الخروج من اليونسكو امتداداً لتلك النزعة، إضافة إلى خروجه من الاتفاق النووي المبرم مع الجمهورية الإسلامية في إيران.
وللوهلة الأولى، ومع رفض كل من روسيا وأوروبا وتركيا وأغلبية العالم لخروج ترامب من الاتفاق النووي وإعادة فرض العقوبات على طهران، اعتقد البعض أن العالم انقسم إلى جبهتين وأن أغلبية الدول في جبهة ضد أمريكا، ما أظهر أن أمريكا حوصرت وعزلت عن العالم، لكن الحقيقة هي أن هذه العزلة، والتي كما ذكرنا في المقدمة ترجع إلى حد كبير لشخصية دونالد ترامب المثيرة للجدل، لم تؤثر حتى الآن – مقارنة بمستوى التأثير الأمريكي – على المعادلات العالمية والإقليمية، وعلى العكس تماماً تشير الأدلة إلى زيادة هذا التأثير في بعض المعادلات، كما أن هذا الانزواء لا علاقة له بخروج ترامب من الاتفاق النووي، حيث شهدنا ذلك أيضاً في القضية الفلسطينية حينما أعلن ترامب نقل السفارة الأمريكية إلى القدس واعترافه بها عاصمة للكيان الإسرائيلي.
وقد تجلت ذروة هذه العزلة يوم الجمعة، 1 كانون الثاني / يناير الماضي، عندما عرض مشروعي قرارين بشأن التطورات الجديدة في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على مجلس الأمن، حيث كانت أمريكا لوحدها في موقع التصويت على المسودتين، فبعد التصويت على المسودة الكويتية التي تؤيد حق الفلسطينيين، أيد 14 عضواً من أعضاء مجلس الأمن الدائمين والذين يبلغ عددهم 15 القرار في حين كانت أمريكا لوحدها واستخدمت حق النقد الفيتو وأسقطت القرار في المسودة الأمريكية الثانية، وعندما كان القرار يدعم كلياً الصهاينة، رفض الـ 14 عضواً هذه المسودة في حين أيدتها أمريكا لوحدها.
لكن هذه العزلة لم تقلل من تأثير أمريكا في الصراع الفلسطيني بل أصبحت واشنطن أكثر تأثيراً فيه من أي وقت مضى، فانتهكت قرارات الأمم المتحدة ووضعتها تحت قدمها وقدمت القدس بقسميها الشرقي والغربي إلى الكيان الإسرائيلي رغم معارضة باقي الدول التي لم تقدم ولم تأخر شيئاً، وهي تمضي اليوم بصقة القرن التي أعلنها ترامب لحل القضية الفلسطينية على حساب الفلسطينيين.
ويعتبر الاقتصاد الأمريكي أحد العوامل الرئيسية التي تحول دون حدوث انخفاض في مستوى التأثير العالمي لأمريكا على الرغم من عزلتها السياسية، فمنذ الحرب العالمية الثانية، كان ما يقرب من نصف اقتصاد العالم في يد أمريكا، بحيث كان اقتصاد ولاية كاليفورنيا الأمريكية لوحدها أكبر من اقتصادات دول كبرى مثل بريطانيا وروسيا وفرنسا آنذاك، هذه الهيمنة الاقتصادية نفسها، وإلى جانب عوامل القوة الأخرى، وضعت الاقتصاد العالمي تحت هيمنة هذه الدولة، والتي بفضلها اليوم تشنّ أمريكا حرباً اقتصادية ضد أوروبا والصين وتواجه كلّاً من الدب الروسي والجمهورية الإسلامية في إيران والعثمانيين الجدد في تركيا.
ولأسباب مختلفة، لا تنوي أمريكا الدخول في حروب خارجية في الوقت الحاضر، ولكنها تريد تحقيق نفس النتائج عبر الحرب الاقتصادية والتكنولوجية التي ربما تستطيع من خلالها تدمير العدو بأقل تكلفة مادية وبشرية ممكنة، ففي الإدارات الأمريكية السابقة كان الرؤساء السابقون يعتمدون على نفوذهم في المجتمع الدولي والحروب التي كانوا يشنّونها من أجل تحقيق أهدافهم، أما في عهد ترامب فإن الوضع يختلف كثيراً، فالرجل يعتقد أن أمريكا لم تستفد كثيراً من قوتها الاقتصادية في ممارسة الضغط على جميع الدول في أنحاء العالم من أجل تحقيق المصالح الأمريكية.
ومن هذا المنطلق، وعلى أساس الشعار الأمريكي الجديد “أمريكا أولاً على الإطلاق”، فإن ترامب يريد من جهة، تعزيز الاقتصاد الأمريكي والتصدي للتحديات الخطيرة التي تواجهها هيمنة بلاده الاقتصادية، بما في ذلك التهديدات الاقتصادية الصينية، ومن جهة أخرى استغلال هذه القدرات الاقتصادية من أجل تحقيق الأهداف السياسية لبلاده.
وبمجرد نجاح العزلة السياسية الأمريكية، سيؤدي ذلك إلى تقييد أدواتها وعوامل القوة فيها، ويمكن تحقيق ذلك عبر إخراج الدولار من التعاملات الاقتصادية لدول العالم، وهذا ما تحاول القيام به بعض الدول التي لديها عداء مع أمريكا، كالصين وإيران وروسيا، حيث أعلنت الجمهورية الإسلامية الأسبوع الماضي حذف الدولار الأمريكي من تعاملاتها الاقتصادية مع الدول العالمية واستبداله باليورو واليان الصيني، وقامت روسيا بنفس الإجراء وتبعتها تركيا التي تواجه اليوم أزمة اقتصادية بفعل الإجراءات الأمريكية الجمركية ضد سلعها، إلا أن هذه الخطوات بحسب اقتصاديين لا تزال تفتقد إلى السرعة اللازمة والجرأة على الأمريكي، لكنها لن تكون لها تأثيرات كبير على سلطة الدولار في العالم إلا إذا اتحدت جميع الدول على حذف الدولار من التعاملات التجارية.
إذن، إن نفوذ أمريكا وهيمنتها على الاقتصاد العالمي، بالرغم من الديون التي تبلغ 14 تريليون دولار، سيستمر في ظل تربّعها على القمة من الناحية الاقتصادية، وتربّع عملتها الدولار واستحكامه بباقي الاقتصادات في العالم، ما يجعل من العزلة أمراً مستبعداً بالرغم من العداء الكبير الذي تواجهه واشنطن في الآونة الأخيرة من دول العالم أجمع.
المصدر / الوقت