صعود استثنائي للانتفاضة السوداء في القارة الخضراء
منذ أن بدأت الاحتجاجات المناهضة للعنصرية في الولايات المتحدة رداً على مقتل رجل أسود على يد الشرطة الأمريكية، والسلسلة المتكررة لمثل هذه الحوادث في الولايات المتحدة، اندلعت في الدول الأوروبية موجة من التضامن مع المتظاهرين الأمريكيين، وفي إدانة الإجراءات القمعية التي اتخذتها إدارة ترامب ضد الاحتجاجات الشعبية، وفي هذا الصدد جرت حتى مسيرات احتجاجية كبيرة في الأيام الأخيرة في بعض هذه البلدان.
وفي هذه التجمعات، ردد المتظاهرون الأوروبيون شعارات تدين السياسات العنصرية في أوروبا، وهي علامة على عدم الرضا عن وجود التمييز العنصري خلف الواجهة الديمقراطية والهادئة للمجتمعات الأوروبية، وقد أدت شرارة الاحتجاجات الأمريكية إلى تنشيط هذه الفجوة الصامتة.
العنصرية في أوروبا
منذ اندلاع الحرب في سوريا وأزمات الشرق الأوسط تقريبًا، بدأت موجة جديدة من العنصرية الهادئة والصامتة في الظهور تحت جلد المجتمعات الأوروبية، واشتدت مع صعود ترامب إلى السلطة في الولايات المتحدة وقضايا أخرى.
جاء في أحدث تقرير لـ “الوكالة الأوروبية للحقوق الأساسية للمواطنين”، والذي نشر الأسبوع الماضي، “إن 30 بالمائة من الأشخاص الملونين تعرضوا للإساءة اللفظية مرةً واحدةً على الأقل في السنوات الخمس الماضية، و5 بالمائة تعرضوا للاعتداء الجسدي”.
وبحسب التقرير، فقد انعكست هذه النظرة العنصرية في سلوك الشرطة في الدول الأوروبية وأنظمتها القضائية أيضًا. و63 في المئة من السود الأوروبيين لم يشكووا إلى القضاء الأوروبي، بسبب إحباطهم من سماع أصواتهم.
موجة العنصرية في أوروبا، قد اجتاحت فرنسا أيضاً التي تعتبر واحدة من الدول الرئيسية للتعددية والتسامح مع الجماعات العرقية. وقد أعلنت وزارة الداخلية الفرنسية في إحصائيات نشرت في فبراير 2020: “في عام 2019، زادت العنصرية وكراهية الأجانب في فرنسا بأكثر من 130 في المائة مقارنةً بالعام السابق”.
وأصبح هذا الأمر تحذيراً لأوروبا وفرنسا، بحيث أن بعض المسؤولين الأوروبيين الذين کانوا يتهربون حتى الآن عن الاعتراف بوباء العنصرية وانعكاسه في وسائل الإعلام، لم يعد بإمكانهم إخفاء ذلك.
على سبيل المثال، اعترف وزير العدل السابق “جاك توبون” مؤخراً بـ “التمييز الهيكلي” من قبل الشرطة الفرنسية ضد “المواطنين السود والعرب”، وأدانها. ومثل هذه الإدانة من قبل مسؤول في فرنسا أمر غير مسبوق.
بلدان أوروبية أخرى مثل ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا وغيرها، شهدت انتشار المشاعر العنصرية والتمييز العنصري في السنوات الأخيرة أيضاً، بحيث في شمال ووسط أوروبا تجددت هذه العنصرية في شكل مجموعات يمينية متطرفة تقليدية، ويتم تنظيمها على شكل مجموعات ناشئة في دول جنوب أوروبا، للتأثير على سياسات هذه الدول.
جذور العنصرية في أوروبا
بعد أحداث 11 سبتمبر واستخدام ذلك من قبل السياسيين الأمريكيين والصهاينة لكراهية الأجانب وإسلام فوبيا، ظهرت موجة جديدة من الكراهية ضد المهاجرين الأوروبيين العرب. وقد تفاقم هذا الأمر بعد الأزمة المالية التي حدثت في 2005-2009. لأن الخوف من البطالة والفقر تسبب في اتجاهات سلبية تجاه العرب المهاجرين والأوروبيين السود. بحيث في فرنسا، عزيت حتى هزيمة المنتخب الوطني لكرة القدم لهذا البلد في كأس العالم إلى السود.
إن تدخل الدول الأوروبية في الشؤون الداخلية لدول مثل سوريا وليبيا، قد كثَّف الهجرة القانونية وغير القانونية إلى هذه الدول. وفي كل مرة کانت ترتكب فيها أعمال إرهابية في هذه البلدان، وخاصةً في 2014-2015، ازدادت الكراهية تجاه المهاجرين. هذا في حين أن السبب الجذري للاغتراب الذاتي للمهاجرين الأوروبيين وأبناءهم، يعود إلی السياسات الخاطئة للدول الأوروبية.
لأن بلدان المنشأ الرئيسية للمهاجرين مثل فرنسا وبريطانيا وإيطاليا، كانت من المستعمرين سابقًا في الشرق الأوسط وأفريقيا، والتي سهلت هجرة بعض الأشخاص من هذه البلدان لمصلحتهم الخاصة. لكن الجيل الثاني والثالث من أبناء هؤلاء المهاجرين، الذين ولدوا في أوروبا، کانوا يجدون أنفسهم مغتربين عن الثقافة الأوروبية.
بعض الدول الأوروبية حظرت تعميم الرموز الدينية للمهاجرين، ولعبت دورًا مهمًا في تفاقم هذا الاغتراب. وفي فرنسا وسويسرا، أصبح العديد من عمليات الحظر هذه قانونياً بين عامي 2004 و2010.
وبعد وصول ترامب إلى السلطة، ورفعه الشعارات العنصرية ودعم الجماعات العنصرية في دول مثل إيطاليا وإسبانيا، ورغبته في نشر القومية المتطرفة في العالم، تم تعزيز العنصرية في أوروبا. وكان دافع ترامب هو إضعاف الاتحاد الأوروبي وتقليل الرغبة في القيادة العالمية في دول أخرى، مع بدء تراجع الهيمنة الأمريكية.
وبحسب محللي مركز “جين” للإرهاب، شهدت عمليات مكافحة الإرهاب ضد المتطرفين اليمينيين أو جرائم الكراهية في ألمانيا بين عامي 2016 و2017 نموًا بنسبة 88 بالمائة. وقد لفتت هذه القضية انتباه الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، الذي حذر من ذلك في ذكرى الحرب العالمية الأولى.
أدى صعود المشاعر العنصرية في أوروبا إلى ارتفاع سيطرة هذه الأحزاب على البرلمان الأوروبي، وذلك من أجل القضاء التام على الحواجز السياسية للعنصرية ومكافحة الهجرة. ومن هذه الأحزاب، حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني في ألمانيا، حزب “رابطة الشمال” المتطرف بقيادة “ماتيو سالفيني” في إيطاليا، حزب “الجبهة الوطنية” بقيادة “مارين لوبان” في فرنسا، لدرجة أن حزب الجبهة الوطنية في فرنسا قد تقدم علی حزب “الجمهورية إلى الأمام “بقيادة “ماكرون” في انتخابات البرلمان الأوروبي.
العنصرية في أوروبا لها جذور هيكلية واجتماعية، وحتى الآن لا توجد هناك أي علامة على إصلاح هذه الأرضيات بين الدول الأوروبية، بحيث يمكن أن نأمل في إضعافها في مستقبل أوروبا. من ناحية أخرى، سيساعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وأزمة كورونا على تفاقمها في المستقبل.
المصدر/ الوقت