الشخصية المصرية عصية على السلفية
ماجد حاتمي –
منذ القدم والايرانيون ، لاسيما نخبهم العلمية والفكرية والادبية والدينية والسياسية ، ينظرون الى مصر نظرة اجلال واكبار ، نظرا لدور مصر الكبير والمؤثر في الحضارة الاسلامية والعربية ، قديما وحديثا ، وهو دور لا يمكن لاي بلد اسلامي في العالم ان يتبوأه.
حقيقة هذه النظرة الايرانية الى مصر والنخب المصرية قد عايشها الفيلسوف المصري الدكتور عبد الرحمن بدوي ، خلال تدريسه في كلية الالهيات في جامعة طهران في العام الدراسي 1973-1974 ، كما جاء في كتابه “سيرة حياتي”.
واشار الدكتور بدوي في كتابه الى ان الكثير من المفكرين الايرانيين وبينهم المفكر الايراني الشهيد مرتضى مطهري ، كانوا يجلسون في المقاعد الامامية عندما كان يلقي محاضراته ، حيث كانت القاعة تمتلىء بالطلاب والاساتذة وهم يدونون كل كلمة كان يقولها الدكتور بدوي.
وعند الانتهاء من الفصل الدراسي جمع الدكتور بدوي محاضراته في كتاب اسماه “تاريخ التصوف الاسلامي” ، يعتبر الان من المراجع المهمة للطلاب في الجامعات الايرانية.
لم ولن يدر في خلد الايرانيين ولو للحظة ان الدكتور بدوي مصري “سني” وانه قد “يفسد عقيدتهم او انه يشكل خطرا عليها” او “قد ينقل ما من شانه ان ينتقص من عقيدتهم ويرفع من عقيدة الاخرين” او “ان الرجل خطر على تشيعهم ” ، بل على العكس تماما كانوا من اكثر الناس احتراما لافكار واراء ونظريات الدكتور بدوي ، الذي يقول في الجزء الثاني من كتابه “سيرة حياتي” صفحة 262 : “وشجعني على مواصلة الاقامة (اي في ايران) الرعاية الكبيرة التي حظيت بها من جانب العلماء والاساتذة في طهران ، وكانت شهرتي العلمية هناك لاتقل عنها في مختلف البلدان العربية ان لم تزد ، و وجدت ان بعض دراساتي قد ترجمت الى اللغة الفارسية ، مثل “الامام علي ورهان بسكال” و مقدمة كتابي “شخصيات قلقة في الاسلام” ، وكان اهتمامهم اكثر بما نشرته من كتب ونصوص لابن سينا . فأحاطني بعض اساتذة جامعة طهران وبعض العلماء المشتغلين بالدراسات الاسلامية بعناية فائقة وحرارة في الاحتفاء انستني ذكرى تجربة سنوات ليبيا البغيضة”.
لم يكن الدكتور بدوي استثناء ، بل ان هناك الكثير الكثير من اساتذة الجامعات والمفكرين المصريين درسوا ودرّسوا في ايران ، وكانوا نافذة ليتعرف الايرانيون على افكار اخوانهم المصريين ، كما تعرفوا هم على الثقافة الايرانية ، دون ان يؤثر وجودهم في ايران على افكارهم وعقيدتهم ، وقد عادوا الى مصر دون ان ينقص او يزيد شيء من هذه العقيدة!!.
اما العلاقة بين علماء الازهر الشريف والحوزات العلمية في ايران ، فكانت متميزة و وطيدة ، ومن هذه العلاقة ، التي بنى اساسها الامام الأکبر الشيخ محمود شلتوت وآية الله البروجردي ، انطلقت فكرة التقريب بين المذاهب الاسلامية ، ولاخيار امام الامة الا بمواصلة درب هؤلاء العظماء ، لتقف على قدميها وتواكب ركب الحضارة ، التي كانت يوما رائدة لها.
لكن للاسف تصل هذه الايام من ارض الكنانة ، اخبار لا تسر من يحبون ويحترمون مصر وحضارتها وثقافتها ، فهذه الاخبار تتناقض مع ما هو معروف عن مصر واهلها وانفتاحها على العالم الاسلامي.
من هذه الاخبار المؤسفة والصادمة خبر إحالة الدكتور أحمد كريمة عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف وأستاذ الشريعة إلى المحكمة التأديبية ، كما نُقل عن رئيس جامعة الأزهر الدكتور عبد الحي عزب ، الذي اعلن ايضا ، أن جامعة الأزهر فضلت أن يكون الفصل في شأن كريمة للقضاء بدلاً من إصدار قرار إداري ، لافتاً إلى أن الحكم بشأنه قد يكون مغلظاً وربما يصل للفصل والإبعاد عن التدريس ونزع الصفة الدينية والعلمية عنه تماماً.
جريمة الاستاذ كريمة التي قيل انها اثارت ردود فعل واسعة في الاوساط الازهرية ، كانت زيارته الى إيران وإلقاء كلمات أمام الحوزات العلمية فيها . ولما كانت التهمة غير مقنعة لاي مواطن مصري مثقف ، حاولت جامعة الازهر ان تجعلها مقبولة من خلال التاكيد على ان استاذ كريمة فعل فعلته دون التنسيق مع الجامعة او اخذ الاذن منها! ، وذلك لابعاد تهمة الانغلاق وعدم الاستعداد لمواجهة الاخر عن الجامعة.
مع كل احترامنا لرئيس جامعة الازهر ، الا ان من الصعب القبول بهذا التبرير للعقاب الذي طال وسيطال الاستاذ كريمة ، لاننا تابعنا وبدقة ردود الفعل التي اثيرت ازاء هذه الزيارة ، جلها كانت من شخصيات سلفية وهابية اخترقت الثقافة المصرية بدعم من دولة خليجية كبرى تعتبر المصدر لهذا الفكر المتكلس والمتخلف والمختلف مع الجميع والمكفر للجميع ، فهذا عادل نصر، المتحدث الرسمي باسم الدعوة السلفية ، أشاد كما نقلت صحيفة “الوطن” حينها بإحالة الدكتور أحمد كريمة الى التحقيق، وقال ” إن “الأزهر مازال حاملا لواء الدفاع عن صحابة الرسول الكريم .. هذا من حسن ظننا بالأزهر الشريف”.
الملفت ان الدكتور كريمة سافر إلى إيران فى ايلول / سبتمبر الماضي، وشارك في مؤتمرات وندوات فكرية تحت عنوان التقريب بين المذاهب والتقى بعدد من علماء الدين الشيعة في مدينة قم ، رد على الهجمة التي يتعرض لها بالقول : إنه قدم مشروعاً للتعاون والعمل المشترك بين الحوزة العلمية وجامعة الأزهر في مجالات كثيرة، واقترح إقامة المؤتمرات المشتركة لمواجهة التطرف الإسلامي , واكد أنه سيمتنع عن السفر إلى طهران في حال اعلنت مصر أن إيران دولة عدوة.
تصريحات الدكتور كريمة هذه تحمل رسالتين في غاية الاهمية ، الاولى ان الجهة او الجهات التي تخشى مثل هذه الزيارات ، هي التي ترفض اي مسعى للتقريب بين المذاهب ، والتي تروج للتطرف الديني والطائفي في مصر ، وهذه الجهات ليست سوى السلفية الوهابية بمختلف الوانها واشكالها ، والتي اذا ما تراجع الازهر امامها ، لا سمح الله ، فانها ستأخذ مصر الى حيث اخذت السلفية بعض الدول العربية والاسلامية ، حيث لا يمر يوم دون ان تتلطخ شوارعها بدماء الابرياء بذريعة “الجهاد” و “الدفاع عن السلف والصحابة” و “الوقوف في وجه الرافضة والمجوس” ، بينما الحقائق على الارض اثبتت كذب هذه المزاعم ، فهذه شعارات تختفي وراءها افكار في غاية الخطورة ، فالسلفية الوهابية ديدنها نفي الاخر والقضاء عليه ان امكن ، ولا دخل لكذبة “الصراع بين السنة والشيعة” في كل ما يجري ، ويكفي القاء نظرة سريعة لما يحصل في ليبيا وتونس والجزائر والصومال ومالي والنيجر ، حيث لاخوف هناك من غزو “شيعي” ولا تمدد “ايراني” ولا هناك من يهدد “السُنة”، ولكن ان الناس رغم ذلك تُقتل في تلك البلدان باسم الدين والدفاع عن السلف الصالح والسنن!!.
اما الرسالة الثانية فهي ، لماذا كل هذا الخوف من ايران ومن “الشيعة”؟، لنفرض جدلا ان “التشيع خطر على السنة” ، فما هو سبب الخوف على “سُنية” شخصية علمية رصينة وكبيرة مثل الدكتور كريمة ؟، هل من الممكن ان تتنازل مثل هذه الشخصية عن عقيدتها لمجرد انها زارت ايران لبضعة ايام؟، اليس مثل هذه المواقف التي تتخذها جامعة الازهر اليوم ، هي تجسيد عملي للانغلاق والتقوقع ، لتوفير بيئة مناسبة وحاضنة للافكار التكفيرية المدمرة التي نسفت مجتمعات باكملها ؟، اذا كان حقا ان جامعة الازهر تخشى على مصر واسلامها الوسطي المعتدل ، عليها اولا محاربة الفكر الوهابي السلفي الذي يروج لالغاء الاخر والعنف والتطرف ، ولسنا بحاجة لتذكير اخوتنا المصريين لما يحدث في سيناء والقاهرة واماكن اخرى من تطبيقات عملية لهذا الفكر التكفيري العبثي.
ايران لم ولن تكون يوما عدوة لمصر ، هذه الفكرة اكد عليها الدكتور كريمة من خلال تصريحاته ، لانه يعلم جيدا ، ان الشخصية المصرية والثقافة المصرية ونظرة الانسان المصري للاسلام والمسلمين ، لا يمكن ان ترى في ايران عدوا ، مهما حاولت السلفية الوهابية المندسة في الثقافة المصرية ، ان تعطب بوصلة هذا الانسان ، فهو عصي على السلفية.