التحديث الاخير بتاريخ|السبت, نوفمبر 23, 2024

بريطانيا ومحاولة منع مقاطعة “إسرائيل”.. ما علاقة “وعد بلفور” 

سيراً على خطى أجداده المستعمرين، أعلن الأمير البريطانيّ تشارلز أثناء خطاب الملكة في افتتاح البرلمان، أنّ حكومة بلاده ستقدم تشريعات من شأنها منع كل الهيئات العامة من المشاركة في حملات المقاطعة ضد “إسرائيل”، والتي وصفها بأنها تقوض تماسك المجتمع البريطانيّ، ما أعادنا بالذاكرة للوراء، وبالتحديد إلى الفترة التي سبقت انتهاء الحرب العالمية الأولى أي قبل أن يتقاسم المنتصرون فيها تركة الإمبراطورية العثمانيّة، سارع وزير الخارجية البريطانيّ حينها أرثر بلفور في 2 نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 1917 إلى كتابة رسالة إلى المصرفي البريطانيّ وأحد زعماء اليهود في بريطانيا البارون روتشيلد، أدت إلى قيام الدولة الطائفيّة “إسرائيل” على دماء وأشلاء ومنازل الفلسطينيين وأراضيهم وما تبع ذلك من حروب وأزمات في الشرق الاوسط.

تاريخٌ يعيد نفسه

إنّ تلك الرسالة المعروفة بوقتنا هذا بـ “وعد بلفور” أوضح تعبير تاريخيّ عن تعاطف بريطانيا مع مساعي الحركة الصهيونيّة لإقامة دولة احتلال طائفيّة لليهود في فلسطين حيث طلب فيها بلفور من روتشليد إبلاغ زعماء الحركة الصهيونية في المملكة المتحدة وايرلندا بموقف الحكومة البريطانية من مساعي الحركة، حيث أدى ذلك دوراً مهماً للغاية في إنشاء الدولة المزعومة بعد 31 عاما من تاريخ الرسالة، أي عام 1948، الذي شهد تطبيق المشروع الصهيونيّ الذي أدى إلى عملية تطهير عرقيّ وتهجير قسريّ للسكان الأصليين أي الفلسطينيين.

وبالتالي، فإنّ بريطانيا التي ساهمت رسالتها في تشجيع يهود القارة الاوروبيّة على الهجرة لاحتلال فلسطين خلال الفترة ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية، في وقت كانت القارة تشهد صعوداً للتيارات القومية المعادية للسامية، تعلن اليوم عن خطط لحظر المجالس المحلية والهيئات العامة الأخرى من المشاركة في حملات مقاطعة “إسرائيل”، وذلك دعماً للمنهج الإسرائيليّ المتطاول على حقوق الشعب الفلسطينيّ ومقدساته وثرواته، حيث إنّ الحكومات الصهيونيّة المتعاقبة منذ يوم 14 مايو/ أيار عام 1948، عندما صُنع هذا الكيان وحصل على اعتراف الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتيّ بعد دقائق من إعلانه، وحتى اليوم، لم تتغير سياسة قادتها قيد أُنملة، بل زادت ظلماً وعدواناً حتى وصلت إلى قمة الإجرام والإرهاب على كل المستويات، بعد أن فرض المستعمرون هذا الكيان على العالم وعلى المنطقة.

وفي هذا الخصوص، إنّ الصفعة القاسية التي وجهتها لندن لمناصري حقوق الفلسطينيين في البلاد، تأتي في أعقاب تطبيق الحكومة البريطانية بشكل واسع النطاق لعقوبات ضد الشركات الروسية في أعقاب حرب أوكرانيا، حيث دعت مجموعات المجتمع المدني الحكومة الشهر المنصرم إلى وقف التشريع، باعتباره يحد من الحق في دعم قضايا مثل حقوق الفلسطينيين والمناخ والعدالة الاجتماعية من خلال حملات المقاطعة، فيما أكّدت 46 جماعة مدنية وحقوقية تتخذ من بريطانيا مقرا لها في بيان أنها تعارض الخطط الحكومية لطرح مشروع قانون “مناهضة المقاطعة” مشدّدة على أنّه يمثل تهديداً لحرية وقدرة الهيئات العامة والمؤسسات الديمقراطية على الإنفاق والاستثمار والتجاري، أخلاقيا، بما يتماشى مع القانون الدولي وحقوق الإنسان.

وفي ظل تسارع المخططات الاستيطانيّة للعدو الصهيونيّ في الضفة الغربيّة والقدس المحتلتين وخاصة في السنوات الأخيرة، من أجل محاولة وسم هوية العاصمة الفلسطينيّة كعاصمة يهوديّة لكيان الاحتلال المجرم واغتيال أيّ مساعٍ فلسطينيّة أو دوليّة أو عربيّة لإقامة دولة فلسطينيّة في الأراضي المحتلة عام 1967، ناهيك عن استهداف وقتل وتهجير الفلسطينيين ونهب أراضيهم، وتأكيد تقارير دوليّة عدة أنّ قوات العدو الغاصب تريد الهيمنة على الفلسطينيين بالسيطرة على الأرض والتركيبة السكانيّة لمصلحة الإسرائيليين اليهود، يحظر القانون البريطاني على الهيئات العامة فرض حملات مقاطعة أو سحب للاستثمارات ضد الدول الأجنبية، بما في ذلك تلك التي تقاطع “إسرائيل” أو تسحب استثماراتها أو تفرض عقوبات عليها.

وعلى ما يبدو فإنّ الحركة الصهيونيّة العالمية هي التي تقف وراء الخطوة البريطانيّة، حيث إن الاحتلال وأعوانه يرتعبون من أدنى مقاطعة لهم نتيجة مخالفتهم الشنيعة للقانون الدوليّ والإنسانيّ، لأنّهم يُدركون جيداً أنّ الشرعيّة التي يحاولون إضفاءها على كيانهم، هي شرعيّة زائفة تُشتتها الحقيقة في كل لحظة، رغم المبالغ الخياليّة التي تُزود بها تل أبيب من واشنطن وغيرها إضافة إلى ما ينهب من أرض فلسطين وتصرف لخلق الشرعيّة للمحتل، وأنّ كلمة الحق مسموعة ومرعبة مهما ارتفعت أصوات الجنات والعنصريين القتلة.

ديمقراطيّة مقيتة

لم تستطع “دولة الديمقراطيّة المقيتة” سماع صوت مناهض لمنهجها الاستعماريّ، وهذا طبيعيّ للغاية باعتبارها دولة احتلت أكثر من 200 بلد في العالم أي ما يقارب 90% من دول العالم أجمع، في وقت يُتهم فيه الكيان الصهيونيّ من قبل منظمات دوليّة حقوقية بانتهاج سياسات تمييز عنصريّ واضطهاد في معاملة الفلسطينيين، والأقلية العربيّة في الأراضي الفلسطينيّة المُحتلة، ونشر تقارير دوليّة تصف ممارسات “إسرائيل” تجاه الفلسطينيين بأنها “أبارتايد” أو فصل عنصري رغم محاولات تل أبيب بسحبها، باعتبار سياساتها ترقى إلى حد الجرائم ضد الإنسانيّة، في ظل تصاعد إجرام العدو الكيان الصهيونيّ الوحشيّ الذي لا يكف عن ارتكاب أشنع الجنايات بحق الفلسطينيين، وقد شاهد العالم جريمة إعدام الصحفيّة المعروفة شيرين أبو عاقلة بالأمس.

ولا يمكن وصف الخطوة البريطانيّة التي أُدينت من قبل منظمات محليّة وفلسطينيّة إلا بأنّها محاولة لانقاذ الكيان الذي بات أكثر فأكثر داخل دائرة المقاطعة نتيجة ممارسة الفصل العنصريّ والاضطهاد، وخاصة عقب الشهادة الدولية القويّة والمحقّة على نضال ومعاناة الشعب الفلسطينيّ الرازح تحت الاحتلال العسكريّ الصهيونيّ وسياساته الاستعماريّة والقمعيّة، ما دفع بريطانيا لمساندة القتلة عوضاً عن لجم خروقات الكيان المُعتدي التي تؤكّدها الأخبار الآتية من الأراضي الفلسطينيّة المحتلة كل يوم.

أيضاً، هو نفس إضافي للكيان الإسرائيليّ ومؤسساته دوليّاً، باعتبار أنّ المقاطعة ستؤدي بالتأكيد إلى إجراءات عقابيّة واضحة وعمليّة ضد العصابات الصهيونيّة، لأنّه يفضح الممارسات العدوانيّة والهمجية للكيان، ويقوي بشكل كبير للغاية مقاطعة العدو الصهيونيّ، وبالأخص جرائم الحرب التي ارتكبتها الآلة العسكرية للكيان في الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة المحاصر، رغم كل محاولات تل أبيب لعرقلة أو إلغاء التحقيق بخصوص جرائم حرب ارتكبها العدو الغاصب، ناهيك عن ملفات الاستيطان، والأسرى، والعدوان على الفلسطينيين.

وتدرك لندن وحكومتها أنّ الشعب الفلسطينيّ يعقد آمالاً كبيرة على مقاطعة الكيان الإسرائيلي، لأنّها ستفضي إلى ملاحقته ووضع حد لتماديه بارتكاب الجرائم بحق أصحاب الأرض، لهذا مدت له يد العون متناسيّة جرائم الصهاينة التي شهدها العالم بأسره بحق الأبرياء، بغض النظر عن تصريحات الكيان الصهيونيّ الذي يعترف بلسانه بأنّه لايمكن بأيّ حال من الأحوال أن يتوقف عن إجرامه وقضمه لأراضي الفلسطينيين وتهجيرهم، وخيرُ دليل على ذلك نص إعلان الدولة المزعومة، والذي يدعي أنّ أرض فلسطين هي مهد الشعب اليهوديّ، وفيها تكونت شخصيته الروحيّة والدينيّة والسياسيّة، وهناك أقام دولة للمرة الأولى، وخلق قيماً حضاريّة ذات مغزى قوميّ وإنسانيّ جامع، وأعطى للعالم كتاب الكتب الخالد، ويزعم الإعلان أنّ اليهود نُفيوا عنوة من بلادهم، ويعتبرون أنّ الفلسطينيين هم ضيوف في “إسرائيل” وأنّ الجرائم التي يرتكبونها بحقهم بمثابة استعادة لحرياتهم السياسية في فلسطين.

وبالتالي إنّ الخطوة البريطانيّة هدفها الأهم هو إخفاء حقيقة جرائم الصهاينة المُحتلين التي لا يمكن أن تتوقف بحق الفلسطينيين والعرب إلا باستئصال ذلك السرطان، لأنّ الجلاد الصهيونيّ الرافض لأدنى انتقاد لجناياته وللوجود الفلسطينيّ بشكل مطلق لا يمكن أن يتغير دون فضح ممارساته الاستبداديّة ومقاطعته، لهذا وجدت بريطانيا أنّه من الضروريّ محاربة جهود المنظمات الدوليّة الحقوقيّة والمجتمع الدوليّ لدعم الحقوق المشروعة للفلسطينيين على أراضيهم، خوفا على الكيان الغاشم الذي سلب الأراضي الفلسطينية والسوريّة واللبنانيّة منذ عقود.

تهديد استراتيجيّ

يستمر الكيان الصهيونيّ الغاشم منذ مطلع القرن المنصرم وحتى اليوم بقمع الشعب الفلسطينيّ واستعمار أرضه دون رقيب أو عتيد بسبب فشل الحكومات العربيّة والدوليّة في محاسبته على جرائمه المتزايدة، وعلى الرغم من استمرار بعض الشركات والمؤسسات العالميّة بمساعدته في انتهاكاته للقانون الدوليّ، نجد أن الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة تعتبر حركات المقاطهة وبالأخص حركة مقاطعة الكيان الصهيونيّ (BDS) تهديداً استراتيجيّاً لوجودهم غير الشرعيّ في فلسطين، حيث أقرّت تل أبيب مرارا بفشلها في القضاء على (BDS) المناهضة لكيانهم الغاصب.

وإن الحركة الفلسطينيّة المنشأ تأسست عام 2005م، وامتدت لتصبح عالميّة بعد ذلك، تسعى لمقاومة الاحتلال الصهيونيّ وتوسعاته الاستيطانيّة، من أجل تحقيق الحرية والعدالة والمساواة في فلسطين وصولاً إلى حقّ تقرير المصير للشعب الفلسطينيّ داخل البلاد وخارجها، وتسعى حركة (BDS) لسحب الاستثمارات من الكيان الصهيونيّ وفرض العقوبات عليه، وتتناول مطالب وحقوق وطموحات كلّ مكوّنات الشعب الفلسطينيّ التاريخيّة.

إضافة إلى ذلك، تُصنف الحركة على أنّها حركة مقاومة سلميّة غير إقصائيّة مناهضة لكلّ أشكال العنصريّة بما في ذلك الصهيونيّة ومعاداة المجموعات الدينيّة والعرقيّة، وتحظى بدعم من قبل اتحادات ونقابات وأحزاب ومؤسسات المجتمع المدنيّ الدوليّ إضافة إلى حركات شعبيّة تمثل الملايين من الأعضاء حول العالم، كما تؤيّدها شخصيات مؤثرة في الرأيّ العام العالميّ.

وإنّ الدور الذي لعبته الحركة الصهيونيّة لإصدار مثل هكذا قرار، يأتي بسبب نجاح “حركة مقاطعة إسرائيل” في بداية عزل الكيان الصهيونيّ أكاديميّاً وثقافيّاً وسياسيّاً، واقتصادياً إلى حد ما، حتى بات الصهاينة يعتبرون هذه الحركة من أكبر الأخطار الاستراتيجيّة المحدقة بهم، وإنّ تأثير الحركة يتصاعد بشكل ملموس بفضل الحملات العالميّة الممنهجة والاستراتيجيّة بشكل مباشر وغير مباشر.
المصدر/ الوقت

طباعة الخبر طباعة الخبر ارسال الخبر الى صديق ارسال الخبر الى صديق

اضافة تعليق