“النفط” واستعادة العلاقات الأمريكية مع الدول العربية
منذ نحو عقد من الزمان، ظهر اتجاه جديد في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وكان في جوهره “الاهتمام بالنهضة الصينية”. ووفقًا لذلك، كان يُنظر إلى الصين باعتبارها جهة فاعلة ناشئة تتحدى الموقف الاقتصادي والسياسي والعسكري والتكنولوجي للولايات المتحدة العالمي في المستقبل غير البعيد. في الواقع، أدى النمو السريع للصين وتطورها في هذه المجالات إلى خلق خوف وذعر عميقين داخل أروقة الإدارة الأمريكية. وعليه، أصبحت قضية التنافس مع الصين تدريجيًا محورًا ثابتًا وأساسيًا في الخطط الاستراتيجية الكلية للولايات المتحدة الأمريكية. ولقد ركزت أجهزة المخابرات والأمن الأمريكية على هذه القضية، وقد حددت مراكز الفكر ومراكز المعرفة، بما في ذلك العديد من مراكز التعليم، وطوّرت مشاريع شاملة لاستكشاف أبعاد ظهور الصين اقتصاديا وعلميا. وفي هذا الصدد، كتب “جراهام أليسون” كتابًا بعنوان “الحرب الحتمية”، حيث إنه يعتبر، بافتراض استمرار سياسات الصين الحالية، أن الحرب مع الولايات المتحدة أمر لا مفر منه.
لكن الوجود المكلف للولايات المتحدة في أجزاء مختلفة من العالم، مثل غرب آسيا، جعل من الصعب للغاية، إن لم يكن من المستحيل، التنافس مع الصين. ولقد أدى التحول في أولويات السياسة الخارجية إلى تطوير سياسة التطلع إلى الشرق منذ رئاسة باراك أوباما. وبناءً على هذه السياسة، تعتبر الصين وظهورها في مجال السياسة الدولية أولوية رئيسية للولايات المتحدة، ويجب عليها إعادة النظر في عمق ونطاق صراعها في مناطق أخرى، بما في ذلك الشرق الأوسط. لقد كانت نتيجة سياسة الولايات المتحدة تجاه الشرق هي تقليل الصراع والالتزام في مناطق مثل غرب آسيا. ويمكن تحليل التطورات الأخيرة في علاقات واشنطن مع الدول العربية، التي كانت تُصنف في السابق على أنها حليف تقليدي، من هذا المنظور. حيث تراجع الدعم الامريكي للسعودية والإمارات خلال حرب اليمن، وقيام واشنطن بسحب أنظمة الدفاع الجوي المتطورة من السعودية، واكتفت واشنطن بالرد اللفظي والسياسي على استهداف أنصار الله لمنشأة أرامكو النفطية.
ومع تولي جو بايدن منصبه، أصبحت علاقات الولايات المتحدة مع الدول العربية مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة أكثر تباينًا، إلى الحد الذي سعت فيه المملكة العربية السعودية إلى تعزيز العلاقات مع روسيا والصين باعتبارهما خصمين حقيقيين للولايات المتحدة، حيث أرسلت الرياض رسائل واضحة إلى إدارة واشنطن تفيد بأنها سوف تغير توجهاتها في السياسة الخارجية. إن الحقيقة هي أنه لم تعد جغرافية غرب آسيا ولا البلدان الغنية بالنفط في دول مثل المملكة العربية السعودية جذابة للولايات المتحدة. ونتيجة لذلك، باءت بالفشل جميع محاولات جماعات الضغط العربية لإعادة العلاقات الأمريكية السعودية الإماراتية. لكن حرب روسيا ضد أوكرانيا أثرت فجأة على المسار العام للأحداث وغيرت نهج السياسة الخارجية. وتعد الزيارة الأخيرة التي قام بها رئيس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية إلى السعودية، وزيارة نائب وزير الدفاع السعودي إلى واشنطن بدورها، مؤشرات على إعادة العلاقات السياسية والأمنية بين البلدين.
كما أنه يتم اتباع اتجاه مماثل في الإمارات العربية المتحدة، حيث كانت زيارة وفد أمريكي رفيع المستوى بقيادة كمالا هاريس إلى الإمارات العربية المتحدة لغرض المشاركة في مراسم جنازة رئيس الإمارات، في سياق الجهود الأمريكية لإعادة العلاقات مع حلفائها العرب. لكن ما الذي دفع الولايات المتحدة إلى التفكير في إصلاح علاقاتها مع السعودية والإمارات؟. وهنا يجب البحث عن الإجابة عن هذا السؤال في التطورات المتعلقة بالحرب الروسية ضد أوكرانيا. فإضافة إلى التداعيات السياسية والأمنية بعيدة المدى، تسببت هذه الحرب في حدوث ارتباك وغموض بشأن استقرار تدفقات الطاقة العالمية. وبعد بدء الحرب، أشارت بعض التقارير إلى توقف توريد 4.5 ملايين برميل من النفط يومياً من الأسواق العالمية. وجاء ذلك بمثابة مفاجأة وضغط على الولايات المتحدة من ناحيتين؛
أولاً؛ ارتفاع أسعار الوقود في الولايات المتحدة
كان أحد آثار حرب أوكرانيا في الأيام الأولى هو ارتفاع أسعار الطاقة في الأسواق المحلية للولايات المتحدة. وتأتي هذه الخطوة في أعقاب الحظر على واردات النفط من روسيا، ما تسبب في ارتفاع حاد في أسعار الوقود في ولايات مثل بنسلفانيا. وهذه الزيادة في أسعار المحروقات، إضافة إلى التبعات الاقتصادية، ستهز بشكل مباشر الموقف السياسي للديمقراطيين، وخاصة إدارة جو بايدن في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
ثانيا؛ انقسام في المعسكر الغربي ضد روسيا
بدأت حرب روسيا ضد أوكرانيا في وقت كانت فيه العديد من الدول الأوروبية تعتمد بشكل كبير على النفط الروسي. وحسب التقارير المنشورة، فقد أنتجت روسيا في الشهرين الأولين من عام 2022، 11 مليون برميل من النفط، تم تصدير أكثر من 7 ملايين برميل منها. وفي غضون ذلك، ذهب نصف صادرات النفط الروسية إلى الدول الأوروبية. وفي المقابل، تعتمد الدول الأوروبية على روسيا بنسبة 20 في المائة من نفطها وحوالي 40 في المائة من وقودها. وارتفع نصيب روسيا من الغاز من إجمالي إمدادات الغاز في أوروبا من 25 بالمئة في 2009 إلى نحو 33 بالمئة في 2021. وتظهر هذه الأرقام بوضوح أنه بسبب تجنب الصدمات الاقتصادية الشديدة، لن يكون لدى الدول الأوروبية ما يكفي من القوة والرغبة في الانضمام إلى الحملة الأمريكية المناهضة لروسيا، على الأقل حتى تجد طرقًا بديلة لتأمين الطاقة التي تحتاج اليها. إن هذان الحدثان اللذان ذُكرا معاً قادا الولايات المتحدة إلى الدول العربية المنتجة للنفط والغاز. ويبدو أن موضوع “النفط” و “الطاقة” سيعيد العلاقات الأمريكية مرة أخرى مع شركائها العرب. وفي هذا السياق، وتحت تأثير “الدور النفطي”، من المتوقع أن تتحسن العلاقات الأمريكية مع السعودية والإمارات مقارنة بالماضي، ولكن لأسباب مختلفة لا يمكن توقع عودة هذه العلاقات إلى ذروة كما كانت في الماضي وذلك للأسباب التالية:
تراجع الدور العالمي للولايات المتحدة
إنها لحقيقة أن الدور العالمي للولايات المتحدة في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية قد انخفض خلال العقد الماضي. ووفقًا للبنك الدولي، تقلصت فجوة الناتج المحلي الإجمالي للصين مع الولايات المتحدة من 9 مليارات دولار في عام 2010 إلى 6 مليارات دولار في عام 2020. ومن الواضح أن قرار الصين ضخ مبالغ كبيرة من رأس المال في الصناعة العسكرية يمكن أن يقصر المسافة الحالية عن الولايات المتحدة على المدى القصير. وفي النهاية، تدهور الموقف السياسي للولايات المتحدة إلى درجة أنه لم يعد لديها القوة الكافية لكسب الإجماع الدولي. وبالتالي، فإن تراجع الدور العالمي للولايات المتحدة لن يسمح لها بتحمل التزامات أمنية وسياسية واسعة كما فعلت في الماضي، ولن يسمح لدول مثل السعودية بالنظر إلى الولايات المتحدة كملاذ آمن.
تثبيت موقف إيران في المنطقة
ويمكن اعتبار العقد الماضي فترة استقرار إيران في منطقة غرب آسيا. وعلى مر السنين الماضية، ثبت للولايات المتحدة والدول العربية مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة أنه لا يمكن القضاء على قوة إيران الإقليمية أو تجاهلها، ولكن يجب إدراج الاعتبارات الجيوسياسية لإيران في المنطقة السياسية والاقتصادية والمعادلات الأمنية. إن استعداد المملكة العربية السعودية للتفاوض مع إيران وإجراء عدة جولات من هذه المحادثات في بغداد هو نتيجة لمثل هذا التفاهم الحاصل لدى الهيئة الحاكمة السعودية. أخيرًا، على الرغم من عودة ظهور العنصر النفطي في إصلاح العلاقات الأمريكية مع حلفائها العرب في غرب آسيا، بما في ذلك السعودية والإمارات، لا يمكن للمرء أن يتوقع عودة هذه العلاقات إلى ذروتها كما كانت بالماضي. وذلك لأنه أولاً، لأن قدرة الولايات المتحدة قد تراجعت مقارنة بالماضي، وثانيًا، دفع استقرار إيران في غرب آسيا ببعض الدول العربية إلى إدراك أنها لم تعد قادرة على العيش في بيئة سياسية واقتصادية وأمنية لوحدها في المنطقة وغض النظر عن الاعتبارات الإيرانية.
المصدر/ الوقت