ما هو الحد الأدنى والأقصى لأهداف تركيا في هجوم عسكري محتمل في شمال سوريا
إن من أهم نتائج الصراع الروسي المطول في أوكرانيا وتآكل هذه القضية في أوروبا تأثيرها على المنشآت العسكرية الروسية الأخرى في الشرق الأوسط، والأهم في سوريا. ويتعين على روسيا سحب جزء كبير من قواتها وقواعدها العسكرية من سوريا لدعم قواتها في أوكرانيا. وهذا الامر سيسمح بالإطاحة بالسلطة في سوريا المنكوبة بالأزمة لجهات فاعلة جديدة وسيخلق صراعات جديدة. وقد يكون احتمال شن عملية عسكرية تركية جديدة في شمال سوريا أحد نتائج هذه التطورات.
هناك نهجان للحد الأدنى والحد الأقصى لأهداف تركيا في سوريا
في نهج الحد الأدنى، سيتم إنشاء ممر أمني بعمق 30 كم من نهر دجلة إلى إدلب في سوريا. إن تركيا، التي تحاول منذ شهور وسنوات رسم منطقة عازلة على حدودها مع سوريا، ستستخدم فراغ السلطة الناجم عن انسحاب القوات الروسية لزيادة عمق نفوذها في سوريا. إن الزيادة الأخيرة في الهجمات الإرهابية من قبل وحدات الحماية الشعبية التابعة لحزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب العاملة في شمال سوريا هي أفضل فرصة وعذر لتركيا لإرضاء الرأي العام داخل المنطقة بتدخلات جديدة. وفي الأيام الأخيرة، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مرارًا وتكرارًا عن عمليات جديدة ضد النقاط الساخنة والأعشاش الإرهابية في سوريا، وأن قوات الأمن التركية والجيش في حالة تأهب قصوى.
ويشير خبراء أمنيون أتراك إلى أن العمليات المحتملة في تل رفعت ومنبج وعين العرب والقامشلي وأجزاء أخرى من الحدود العراقية خطيرة للغاية، حيث تعتزم إعادة توطين اللاجئين السوريين في شمال سوريا بعد إقامة منطقة آمنة. وهدف آخر لتركيا هو العودة الدائمة للاجئين السوريين إلى مناطق آمنة في شمال سوريا. وستكون هذه أيضًا أفضل فرصة لإحداث تغيير ديموغرافي على الحدود السورية التركية. ويعتبر دمج المناطق الآمنة شرطاً أساسياً من وجهة نظر تركيا، ولهذا السبب فإن الجيش التركي والقوات المدعومة من تركيا والمعادية للأسد، بما في ذلك الجيش السوري الحر والجيش الوطني السوري الموالي للجيش التركي، سيطرت على عفرين وتل أبيض.
وسيتم إخلاء المناطق الواقعة بين جرابلس وعفرين وتل رفعت ومنبج، والتي تخضع الآن للسيطرة الروسية بعد ثلاث جولات من المفاوضات مع تركيا والعديد من التفاعلات الميدانية. ومن الناحية الجيوسياسية، حالت المنطقة دون تكامل المنطقة الآمنة بين جرابلس وعفرين، وحسب مسؤولين أمنيين أتراك، فقد انتشر حزب العمال الكردستاني ووحدات الحماية الشعبية بين المنطقتين الآمنتين في السنوات الأخيرة وتسلل إلى عفرين وجرابلس. ومن هنا تسعى تركيا لمهاجمة المنطقة الواقعة بين عفرين وجرابلس لتسهيل مشروعها بالتوسع. بالطبع، سيكون لهذا الإجراء العديد من الصعوبات والتكاليف بالنسبة لتركيا؛ وخاصة إذا أعطى الروس عتادهم العسكري للأكراد أو لحكومة الأسد.
إن إيران، باعتبارها أحد أهم اللاعبين الميدانيين في سوريا وفي المنطقة، لم تحدد أهدافًا استراتيجية لها في السنوات الأخيرة، وبالتالي سيكون لتركيا أكبر صراعات مع روسيا والولايات المتحدة والقوات الكردية وحكومة الأسد. في الماضي، سيطرت تركيا على رأس العين وتل أبيض من خلال تنفيذ عملية ينبوع السلام شرق نهر الفرات. وعين العرب، المعروفة باسم كوباني، تخضع لسيطرة حزب العمال الكردستاني ووحدات الحماية الشعبية بين تل أبيض وجرابلس. لذلك هناك فراغ أمني بين رأس العين ودجلة. وتريد تركيا إنشاء ممر أمني من نهر دجلة إلى إدلب شمال سوريا من خلال القضاء على الفراغ الأمني في المنطقة.
وفي النهج المتطرف، تسعى تركيا إلى زيادة الضغط على حكومة الأسد وتمهيد الطريق لإحداث تغيير في وسط وجنوب سوريا. ودعم القوات المناوئة للأسد هو مشروع تركي إسرائيلي مشترك تم الاتفاق عليه خلال زيارة تشاووش أوغلو إلى تل أبيب. ويشير الدعم القوي من الإمارات العربية المتحدة، وإلى حد ما، المملكة العربية السعودية للمحادثات التركية الإسرائيلية بشأن مستقبل سوريا، إلى تحالف غير مكتوب لممارسة مزيد من الضغط على بشار الأسد والقوات الإيرانية المتمركزة في سوريا.
لقد شهدت المناطق المحتلة في شمال سوريا تحركات عسكرية تركية كبيرة، وتشير التقارير إلى أن أنقرة تحاول احتلال أجزاء أخرى من هذا المحور من خلال شن جولة جديدة من الهجمات. وكما ورد في بعض التقارير، تعتزم الحكومة التركية تحرير شمال شرق وشمال محافظة الحسكة (القامشلي) ومحافظة حلب الشمالية الشرقية (جرابلس) من سيطرة المليشيات الكردية (ما تسمى قوات سوريا الديمقراطية) الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية، بحجة تأمين المناطق الحدودية. وحسب بعض المعلومات الواردة، فإن هجمات أنقرة في شمال سوريا لا تشمل فقط المناطق التي تحتلها الميليشيات الكردية، وحسب مصادر ميدانية مطلعة، تخطط تركيا لاحتلال أجزاء من محافظة إدلب. وتظهر مراجعة للأنباء التي تم الحصول عليها أن الحكومة التركية والجماعات الإرهابية بدعم من الدول الغربية تتابع احتلال أجزاء أكثر من المناطق الخاضعة لسيطرة الجيش السوري ومقاتلي جبهة المقاومة في محافظة إدلب.
وتماشيا مع هذا السيناريو، نقل الجيش التركي رتلًا قوامه نحو 30 آلية تحمل عتادًا عسكريًا من معبر كفرلوسين الحدودي إلى المناطق التي تحتلها الجماعات الإرهابية في محافظة إدلب. باختصار، تفكر الحكومة التركية وتخطط في هذا المنعطف الحرج لكسب المزيد من النفوذ في محافظة إدلب وزيادة حجم الأراضي المحتلة في شمال وشمال غرب سوريا في نهاية المطاف، لكن الحقائق الميدانية تشير إلى أن حسابات أنقرة خاطئة. وبصورة أدق، إذا كانت أنقرة تبحث عن مغامرة في محافظة إدلب، فإنها ستواجه تحديًا كبيرًا، لأن الرد على الهجوم على مواقع الجيش السوري والمقاومة سيكون ساحقًا وصعبًا، ولن يكون أردوغان قادراَ على المناورة.
يصرّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على إنجاز شريطه الأمني في شمال سوريا، على طول الحدود وبعمق 30 كيلومتراً. هو الآن يستعد لما يشبه الخطوة الأخيرة في مشروعه هذا تتويجاً لسلسلة عمليات ذات أسماء موحية، “درع الفرات” و”غصن الزيتون” و”نبع السلام” و”درع الربيع”. جميع هذه الأسماء “اللطيفة” خُصّصت للهجمات داخل سوريا، في مطاردات لا تنتهي لحزب العمال الكردستاني، وكان “المخلب” ذلك الاسم.
ويقول أردوغان “لا نريد أن يزعجنا أحد” في منطقتنا الأمنية السورية. وهذا لن يتم إلا بعد القضاء على الإرهابيين. والإرهابيون في التعريف التركي هم الاكراد الذين يقاتلون تحت راية “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) ويقيمون علاقات متينة مع القوات الأميركية شرق سوريا وتعاوناً لم ينقطع مع القوات الروسية، وهذا ما جعل الروس والأميركيين المشتبكين في صراع دولي حول أوكرانيا “يتفقان” على مطالبة الأتراك بإعادة النظر في نواياهم العسكرية بشأن هجوم جديد.
لكن أردوغان الذي يستعد لانتخابات رئاسية العام المقبل لا يبدو مهيئاً للتراجع عن خططه. فعملية من هذا النوع ستحسّن موقعه في تلك الانتخابات في ظروف صعوبات تركيا الداخلية الاقتصادية والمالية، وتعقيدات المناخ الدولي حول أوكرانيا، التي تزيد حاجة الأميركيين والروس معاً إلى تركيا، واضطرار روسيا إلى سحب بعض قواتها من سوريا إلى ساحة المعارك الجديدة في أوكرانيا، عوامل تدفع تركيا إلى اعتبار الفرصة سانحة للتوسع في سوريا، التي تحولت بعد عقد من الاقتتال والتدخلات الخارجية إلى ساحة تجارب واقتسام.
المصدر/ الوقت