“إسرائيل” وسياسة سلخ الهوية الفلسطينيّة
بالتزامن مع حملة الإجرام الإسرائيليّة الممنهجة التي يمارسها الكيان الصهيونيّ بحق الشعب الفلسطينيّ وأرضه ومقدساته، تتصاعد تجاوزات العدو الغاصب بحق المقدسات الإسلاميّة في فلسطين التاريخيّة في الفترة الأخيرة على وجه التحديد، ومن ضمن تلك الانتهاكات، العدوان على المسجد الأقصى المبارك بشكل خاص إضافة إلى قبة الصخرة المباركة والمدينة المقدسة، وذلك من خلال سياسة “الحديد والنار” تارة و “التغلغل الناعم” تارة أخرى، لـ “هندسة وعي” المقدسيين، في محاولة من سلطات الاحتلال لإيجاد فلسطينيّ جديد يتقبل العدو ويتفهم ممارساته ويتعامل معها على أنها ممارسات روتينيّة وفقاً لمحللين أكّدوا أنّ “إسرائيل” لا تهدف إلى تمرير مضامين الاحتلال عبر عدة أدوات لهندسة وعي المقدسيين من ناحية سياسية فقط، بل تتعدى ذلك لإعادة تشكيل وعيهم من عدّة نواح دينية واجتماعية وثقافية واقتصادية.
هندسة وعيّ مستقبليّ
محللون كُثر تطرقوا في تحليلاتهم بالاستناد إلى الدراية والاطلاع الكبيرين بالشأن الفلسطينيّ إلى سياسة هندسة الوعي في المسائل الدينية، في ظل تكثيف قوات الاحتلال محاولاتها لتغيير مفهوم المسجد الأقصى بالتركيز على قدسيته عند اليهود وتقليص الحديث عن القدسية الإسلاميّة لهذا المكان بالقدر المستطاع، من خلال خطط وممارسات وُصفت بـ الـ”يوميّة” داخل باحات أولى القبلتين لتكريس هذا الفكر المخادع، وقد عاصرنا ومانزال حملات استهداف المسلمين والمسيحيين ومقدساتهم من قبل “إسرائيل” تحت مُسمى “السلام”، و ممارسة الإجرام ضد كلّ ما هو غير يهوديّ في فلسطين، حيث إنّ الجماعات الإسرائيلية المتطرفة تُهدد كل المقدسات في فلسطين لإضفاء طابع يهوديّ في كل مكان، بالتزامن مع محاولات العدو الممنهجة لإضعاف وتهميش وشطب الوجود الإسلاميّ والمسيحيّ من مدينة القدس المحتلة ومحاولة طردهم الفلسطينيين وإبادتهم.
وتهدف “إسرائيل” حسب تقارير من وسائل عربيّة مهمة إلى زرع الرواية التوراتية وتثبيتها، حيث تواصل العصابات الصهيونيّة سرد وتثبيت روايته التوراتية حول كل حجر في القدس، في سعي لتطويع المقدسيين وإقناعهم بها تدريجيا حتى يخضعوا لإرادة المحتل، فلا شيء أوضح من المخططات الإسرائيليّة في فلسطين والمنطقة، فمنذ أن وافق الصهاينة على إنشاء وطنهم اليهودي على أرض فلسطين العربيّة تاريخيّاً، يكررون المزاعم الفارغة حول أنّ فلسطين هي “أرض الميعاد” وأنّ اليهود هم “شعب الله المختار”، وأنّ القدس هي “مركز تلك الأرض”، وأنّها “مدينة وعاصمة الآباء والأجداد”، و”مدينة يهوديّة بالكامل”، بهدف الاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من أراضي الفلسطينيين بأقل عدد ممكن منهم، بعد أن شجعت الحركة الصهيونيّة بشكل كبير جداً، هجرة يهود أوروبا الجماعيّة إلى أرض فلسطين خلال النصف الأول من القرن العشرين.
وكا تقول الوقائع، غيرت سلطات الاحتلال الغاصب معالم المدينة المقدسة وشوهت فضاءها العام وهوّدت أسماء الشوارع والأزقة ليجد المقدسيون أنفسهم أمام رواية متسلسلة متكاملة تُزرع عبر أدوات مختلفة منها المفردات الإعلامية وشخصيات مختلفة من إعلاميين وأكاديميين ومؤرخين يختصون ببث الرواية بشكل ناعم حتى تصبح مقبولة يوماً بعد آخر، وكأنّ تصرفات العدو تحاول تحويل ترهاتها إلى واقع، على سبيل المثال أنّ القدس هي عاصمةٍ أبديّة للصهاينة من كل حدب وصوب للتطاول على حقوق الشعب الفلسطينيّ ومقدساته وثرواته، ناهيك عن سرقة وتخريب الآثار الفلسطينيّة، باعتبارها تشكل جزءاً من الهوية الثقافيّة والحضاريّة لفلسطين، والتي تُعتبر من الدول الغنيّة جداً من الناحية الأثريّة، حيث تتنافس مع مصر على المرتبة الأولى من حيث الاستحواذ على الآثار في الوطن العربيّ، وقد اهتمت الحكومات الصهيونيّة المتعاقبة منذ يوم 14 مايو/ أيار عام 1948، عندما زُرع هذا السرطان بمحاولة تدمير أو تشويه أو تخريب كل ما هو يناقض حقيقتهم القذرة، وحتى اليوم، لم تتغير سياسة قادة العدو قيد أُنملة، بل زادت ظلماً وعدواناً حتى وصلت إلى قمة الإجرام والإرهاب على كل المستويات، بعد أن فرضه المستعمرون على العالم وعلى المنطقة.
أدوات خشنة
بالتزامن مع الهجمات الصهيونيّة الشرسة على كل ما هو فلسطينيّ، وحملات قوات الاحتلال التي لا تتوقف عن استهداف وقتل وتهجير الفلسطينيين ونهب أراضيهم، في مساع حثيثة من قبل العدو ومسانديه للهيمنة على مقدرات فلسطين بالسيطرة على الأرض والتركيبة السكانيّة لمصلحة الإسرائيليين اليهود، يلجأ العدو الصهيونيّ حسب مراقبين للأدوات الخشنة في حال عدم الرضوخ لسياسة كي الوعي الناعمة، فيستهدف رواد المسجد الأقصى والمدافعين عنه بعقوبة الإبعاد، والناشطين بفضح ممارسات الاحتلال على المنصات الاجتماعيّة بتوجيه تهمة التحريض لهم وزجهم في السجون أو منعهم من السفر أو فرض الإقامة الجبرية عليهم وغيرها من العقوبات، وهذا كله جزء لا يتجزأ من حملات تهويد القدس وبلدتها القديمة وتشويه هويتها الحضارية الفلسطينية المسيحية الإسلامية، وجزء من حملات تغيير واقعها التاريخي والقانوني والديمغرافي القائم، كما يقول الشعب الفلسطينيّ.
كذلك، يسعى الاحتلال الصهيوني من خلال ذلك لدفع المقدسيين بالقوة لقبول ممارساته وروايته وللبحث عن مصالحهم الاقتصاديّة والشخصيّة فقط ومحاولة انتزاع الجانب النضاليّ ومقاومة الاحتلال من حياتهم، لاستكمال مخطط “إسرائيل” الاستيطانيّ الهادف للسيطرة الكاملة على العاصمة الفلسطينية القدس، وتتحمل الحكومة الإسرائيلية المسؤولية الكاملة والمباشرة عن هذه المشاريع الاستعمارية التهويدية، باعتبارها تصعيداً خطيراً يهدد فلسطين بانفجارات كبرى يصعب السيطرة عليها.
وحسب تقارير إعلاميّة عبريّة، فإنّ عملية تهويد القدس مستمرة وتجرى على قدم وساق بعيداً عن الأضواء، ومن دون أن تكون هذه القضية سبباً لزعزعة العلاقات الإسرائيلية – الأميركية، حيث يجري بناء أحياء يهودية جديدة والتخطيط لأخرى وراء الخط الأخضر (الشطر الشرقي لمدينة القدس المحتل عام 67) مثل أحياء هار حوما، وغفعات همطوس، وعطروت ورمات شلومو، كما تكثف جمعيات المستوطنين جهودها لتهويد حي سلوان وحي الشيخ جراح وجبل المكبر وراس العامود، وفي هذه الأحياء وأحياء فلسطينية أخرى، يواصل الفلسطينيون مواجهة سياسات تخطيط وبناء مستحيلة.
ويقول الإعلام العبريّ إن هذا الأمر يحدد ويبلور معالم “عاصمة إسرائيل” والكيان برمته، معترفين بحقيقة تحدث منذ عشرات السنين، وهي استيقاظ عشرات آلاف الفلسطينيين المقدسيين على واقع خطر، هدم بيوتهم أو طردهم منها، أو خطر يهدد حياتهم، ما يدفع المدينة نحو اليأس والعنف، فيما يعترف كتاب إسرائيليون بأنّ إقامة الأحياء اليهودية وجهود تهويد الأحياء الفلسطينية تجعل كل مستقبل لتسوية سياسية “غير ممكن”، في وقت يدفع فيه الإجرام الإسرائيليّ بعض الفلسطينيين في القدس للصمت وعدم التعبير عن الرأي وخاصة عبر المنصات الاجتماعية، لأنهم باتوا يعلمون أن مصيرهم سيكون قاتما في سجون الكيان، فيما لا يزال آخرون يردون على هذه الممارسات بمزيد من التمسك بالأرض والثوابت، وما حصل في سلوان والشيخ جراح وباب العامود والمسجد الأقصى يؤكد تلك الحقيقة.
تكريس الاحتلال
في ظل قيام سلطات العدو بتجفيف البلدة القديمة من المتسوقين والحركة الشرائية، منحت بلدية العدو التراخيص لبناء المحال التجارية في بلدتي شعفاط وبيت حنينا شمال العاصمة الفلسطينيّة، فاستهدفت وعي المقدسيين بجلب مراقبين بشكل هادئ ودفعت بعض التجار لهجرة البلدة القديمة نحو هذه الأحياء التي تتوافر أمام محالها مواقف للسيارات إضافة لحرية التسوق دون وجود احتلالي عسكريّ كما في أسواق العتيقة.
وبالتالي، حول الكيان الصهيونيّ الانتهاكات في المسجد الأقصى ومحيطه إلى أمر واقع، حيث إنّ سلطات العدو لم تتوقف يوماً عن استئناف الاقتحامات اليوميّة للمسجد الأقصى المبارك، والتي تُعد محاولة لفرض أمر واقع بشكل يوميّ، فيما يسير العدو بمشروع لبناء ألف وحدة استيطانيّة، لعزل القرى الفلسطينيّة شرق مدينة القدس بالكامل، ضمن ما يسمى مشروع “القدس الكبرى”، ورغم الانتقادات والتساؤلات الدولية عن هذه الاعتداءات المتكررة على المدنيين الفلسطينيين والصحفيين، إلا أنّ حكومة العدو مستمرة في نهج اللعب بالنار، حيث يكاد لا يمر يوم إلا ويشهد المسجد الأقصى المبارك اقتحامات يوميّة من جنود يهود في محاولة لتقسيمه وفرض الهيمنة الكاملة عليه، في سياسة استفزازية وتصعيدية تحاول حكومة العدو جر المنطقة إليها من جديد، بهدف تكريسها في أذهان المقدسيين حتى تصبح أمراً روتينيّاً طبيعيا في نظرهم، كاقتحامات المتطرفين للمسجد الأقصى وأداء طقوسهم بشكل علني داخله، ورفع العلم الإسرائيلي بشكل جماعيّ.
وباعتبار أنّ سلطات الاحتلال القاتل ماضية في حملتها الإجراميّة المنظمة لتهجير ومسح هوية ما تبقى من أبناء الشعب الفلسطينيّ، ونهب أرضهم وممتلكاتهم ومنازلهم، إضافة إلى استماتة العدو لتغيير معالم المدينة المقدسة وتهويدها، بهدف بسط السيطرة الصهيونيةّ الكاملة على المسجد الأقصى المبارك، والمقدسات التاريخيّة للشعب الفلسطينيّ، تهدف تل أبيب إلى إجبار الفلسطينيين على القبول بسياسة الأمر الواقع، أو مواجهة مصير اجتماعيّ واقتصاديّ قاتم في حال قرروا التمرد، والعقوبة الوحيدة التي يملكها المحتلون بالطبع هي فرض عقوبات جماعية من هدم للمنازل وسحب للإقامات وإقامة جبريّة ضد الناشطين المقدسيين لإيصال رسالة ردع للآخرين بأن لا خيار سوى الرضوخ أمامهم.
في الختام، بات الفلسطينيون يملكون تجربة مريرة وطويلة مع المحتل الإسرائيليّ، وقد بات واضحاً أنّ قوات العدو التي تمنع أصحاب الأرض والمقدسات من ممارسة شعائرهم في عاصمة بلادهم وتقتلهم وتعتقلهم لهذا السبب، وتحاول طردهم من ديارهم وترتكب بحقهم أبشع الجرائم، تسعى بكل ما أوتيت من قوة لتحقيق “حلم الصهاينة” بأن تكون القدس عاصمة لمستوطنيهم وكيان احتلالهم فقط، ولجعل ذلك حُلماً مستحيل المنال، لا بد من ردع الكيان الصهيوني عن ممارساته العنصرية والإجرامية بحق الفلسطينيين وأرضهم، من خلال كل الوسائل، ولقد أثبت الشعب الفلسطينيّ من خلال مواجهاته الشرسة مع الكيان المستبد حجم قوته وحكمته واقتداره، وبالتأكيد فإن انتصاراته التاريخية الكبيرة مع المقاومة لا يمكن أن تُمحى من ذاكرتنا.
ويجب على الفلسطينيين أن يكونوا حذرين بشكل كبير من خطورة هذا المشروع التي تكمن في تسهيل وصول المستوطنين اليهود إلى المسجد الأقصى وحائط البراق، وبالتالي تشجيع المستوطنين على اقتحام المسجد الأقصى المبارك بشكل مستمر ومكثف، لكي تسعى من خلال تلك الإجراءات الجماعات الاستيطانية وعلى رأسها جماعات “الهيكل المزعوم”، إلى تثبيت المعالم اليهودية في المدينة المقدسة، بالتزامن مع الاستهداف العلنيّ للهوية الفلسطينيّة المقدسيّة وللوجود الفلسطينيّ ناهيك عن السلوك العدوانيّ العنصريّ الخطير والجرائم المستمرة التي تضاف إلى سجل العدو الأسود بحق القدس وسكانها.
المصدر/ الوقت