قمة عربية صينية استثنائية… هل نشهد ولادة نظام عالمي جديد
تتجه الصين بعد تراجع النمو الاقتصادي في البلاد و الذي خلفه كوفيد- 19 إلى محاولة كسر الطوق و الخروج من عزلتها و عودة تأمين الأسواق اللازمة بعد تشغيل عجلة الإنتاج مجددا في مصانع العالم من خلال إعادة رسم خارطة سياسية و اقتصادية جديدة للبلاد، ومنه شكلت القمة العربية الصينية التي تستضيفها السعودية محطة بارزة في مسيرة الشراكة الاستراتيجية بين الدول العربية و الصين. فهل نشهد ولادة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب؟
ويشارك في قمة الرياض العربية – الصينية للتعاون والتنمية ، التي ستسبقها قمة سعودية -صينية وأخرى خليجية -صينية للتعاون والتنمية ، قادة دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية والدول العربية. ولعل ترؤس الرئيس الصيني شي جين بينغ وفد بلاده لقمة السعودية ، له مدلولات عميقة تجاه استراتيجية علاقة الجانبين، في ظل الاضطرابات العالمية وأزمة إنتاج النفط وإشكاليات نقص الطاقة، وحتما ستغطي الزيارة جميع الملفات المهمة على الصعيدين السياسي والاقتصادي.
وتندرج القمة العربية الصينية ضمن إطار مبادرة التنمية العالمية المشتركة التي أطلقتها جمهورية الصين الشعبية بعد مبادرة “الحزام والطريق” . وتهتم المبادرة بقضية التنمية المشتركة بين الدول العربية والصين إيمانا منها بضرورة توجيه الجهود العالمية نحو هذا الهدف المنشود والمتمثل بالأساس في تحقيق التنمية العالمية الشاملة العادلة والمتوازنة والإنمائية التي نادت بها الأمم المتحدة في إطار التنمية المستدامة.
الدلالات السياسية و الاستراتيجية للقمة
من الناحية السياسية والاستراتيجية، تسعى الصين إلى تعزيز نفوذها ووجودها في المنطقة، ومزاحمة القوى الكبرى الأخرى وخاصة أمريكا وروسيا. فالصين موجودة اقتصاديا بشكل كبير فى دول المنطقة، فى مقابل الوجود العسكرى الأمريكى، ولذلك بدأ النفوذ الصيني يتزايد في بعض الملفات والأزمات السياسية مثل الأزمة السورية، والتي استخدمت الصين فيها حق الفيتو أكثر من مرة. كما أن الانسحاب الأمريكي من المنطقة في عهد إدارة الرئيس بايدن ترك فراغا كبيرا تسعى الصين لملئه وتعزيز علاقاتها مع دول المنطقة، ولذلك جاءت القمة الصينية العربية في أعقاب القمة الأمريكية الخليجية العربية فى يوليو الماضى، وهو ما يعكس أهمية المنطقة، ومساعى الدول الكبرى لتوطيد نفوذها ووجودها فى الشرق الأوسط. هذا التنافس الدولى على المنطقة يعكس السياسة الخارجية التى تتبناها مصر والسعودية والإمارات والقائمة على مفهوم بناء شراكات اقتصادية واستراتيجية مع القوى الكبرى، دون الانحياز لقوة على حساب القوى الأخرى أو استبدال قوة بقوة أخرى، وإنما الاستفادة من التعاون مع كل القوى الكبرى في إطار من الندية والاستقلالية بما يعظم المكاسب والمصالح الاقتصادية و السياسية إضافة إلى تنويع مصادر تسليحها.
من جهة أخرى تأتي القمة الصينية العربية مع دخول الحرب الروسية في أوكرانيا شهرها العاشر على التوالي بكل تداعياتها على قطاع الطاقة و المعارك المفتوحة بين روسيا و الغرب حول أسعار النفط. و يرى مراقبون أن انعقاد هذه القمة قبل أيام فقط على موعد انعقاد القمة الأمريكية الإفريقية التي تحتضنها واشطن بمثابة خطوة واضحة نحو إعادة تشكيل عالم متعدد الأقطاب و الخروج من دائرة القطب الأمريكي الواحد و الهيمنة الامريكية بعد أن أدت الأحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة، والتي سادت خلال العقود الثلاثة الماضية إلى الاضطراب وعدم الاستقرار وتصاعد مخاطر الصراعات والحروب والإرهاب والحروب بالوكالة، كما برز في تجربة ما سمي بثورات الربيع العربي وكذلك الأزمة الروسية الأوكرانية، وتصاعد خطر الإرهاب والحروب الأهلية. والصين لديها سجل تاريخي فى دعم القضايا العربية وخاصة القضية الفلسطينية، كما أنها تتوافق مع التوجهات الخارجية العربية في احترام سيادة الدول وعدم التدخل فى شؤونها الداخلية ورفض استخدام حقوق الإنسان والديمقراطية كأوراق ضغط ومظلة للتدخل فى شؤون الآخرين. ولذلك من هنا تكتسب القمة العربية الصينية أهمية كبيرة للجانبين العربي والصيني.
دلالات توقيت القمة
تم اتخاذ القرار بعقد القمة في يوليو/تموز 2020، في ذروة انتشار جائحة كورونا، وكان التضامن والتآزر بين الجانبين لمكافحة الجائحة في أعلى مستوياته، وأثبت أهمية تعزيز التعاون بين الجانبين، حيث أجرت الصين تعاونا فعالا مع الدول العربية في مجالات تطوير اللقاح واستخدامه والوقاية والسيطرة المشتركة وتقاسم الخبرات والأدوية العلاجية وغيرها.
فيما تعقد القمة، بعد نحو 5 أشهر من استضافة السعودية في منتصف يوليو/تموز قمة أمريكية خليجية بمشاركة الأردن ومصر والعراق خلال زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للمملكة، التي كانت الأولى من نوعها للشرق الأوسط منذ توليه منصبه.
كذلك تعقد القمة في الوقت الذي تشهد فيه العلاقات السعودية الأمريكية مؤخرا توترا إثر قرار تحالف “أوبك+” خفض إنتاج النفط الذي اعتبره البيت الأبيض اصطفافا إلى جانب روسيا في حرب أوكرانيا، وهو ما رفضته السعودية، مؤكدة أنه يهدف لخلق حالة من التوازن واستقرار أسواق النفط.
أيضا تعقد القمة، في ظل تحديات إقليمية ودولية غير مسبوقة، من أبرزها الحرب الأوكرانية الروسية وما نتج عنها من تداعيات تتعلق بالأمن الغذائي وأمن الطاقة وتهديد الاستقرار والسلم الدوليين.
كل تلك المتغيرات الدولية أكدت أن تعددية الأقطاب في العالم أصبحت أمرا لا رجعة عنه، وأنه من مصلحة الدول العربية بناء شراكات استراتيجية متوازنة مع أقطاب العالم تقوم على الندية والمصالح المتبادلة، واستكشاف أنماط تعاون جديدة أكثر استدامة.
من جهة أخرى، يرى مراقبون أن العرب سوف يؤكدون في ختام القمة على مواقفهم الثابتة حول القضايا والمشاغل الجوهرية للصين وفي مقدمتها تايوان، حيث سيؤكد العرب مرة أخرى أن حكومة جمهورية الصين الشعبية هي الحكومة الشرعية الوحيدة التي تمثل الصين بأسرها، وأن تايوان جزء لا يتجزأ من جمهورية الصين الشعبية، ومعارضة “استقلال تايوان” بكل أشكاله، وعدم إقامة علاقات رسمية مع تايوان أو القيام بأي تواصل رسمي معها، واعتبار المسائل المتعلقة بمنطقة التبت وهونغ كونغ وشينجيانغ شأناً صينياً داخلياً، ورفض قيام قوى التطرف الديني والقوى الانفصالية القومية والقوى الإرهابية بالنشاطات الانفصالية والمعادية للصين.
ويرحب الشارع العربي بشكل عام بالتعاون مع الصين التي كانت قد عبرت عن موقف الصارم من القضية الفلسطينية خلال “منتدى أمن الشرق الأوسط” الذي عقد في مدينة بكين في 27 ديسمبر 2019، حيث أكدت الصين أنها “لن تسمح ببيع الحقوق الإنسانية للشعب الفلسطيني في أي صفقة مزعومة.
العلاقات الاقتصادية الصينية العربية بالأرقام
تعتبر المنطقة العربية بالنسبة لبكين مهمة لها جيواستراتيجياً، بسبب وقوع طرق التجارة فيها. وكذلك بسبب احتوائها على مصادر الطاقة، وخصوصاً أن بكين هي المستهلك الأكبر للطاقة في العالم. ففي عام 2013 تفوقت الصين على الولايات المتحدة باعتبارها أكبر مستورد للنفط الخام من الشرق الأوسط. ومنذ عام 2017 أصبحت الصين أكبر مستورد للنفط الخام في جميع أنحاء العالم، ومن المرجح أن يمثل الشرق الأوسط 70% من احتياجات الصين من الطاقة بحلول عام 2030.
في عام 2021، بلغت أرصدة الاستثمار المباشر المتبادل بين الجانبين الصيني والعربي 27 مليار دولار أمريكي، بزيادة 2.6 ضعف عما كانت عليه قبل سنوات؛ وبلغ حجم التبادل التجاري بين الجانبين 330.3 مليار دولار أمريكي، بزيادة 1.5 ضعف عما كان عليه قبل 10سنوات.
وفي الأرباع الثلاثة الأولى لعام 2022، وصل حجم التبادل التجاري بين الجانبين إلى 319 مليارا و295 مليون دولار أمريكي، بزيادة 35.28% عما كان عليه في نفس الفترة للعام الماضي، ويقارب الحجم الإجمالي في عام 2021.
إضافة إلى ذلك كله، تعد المنطقة العربية سوقاً استهلاكياً كبيراً يشجع الصين على السعي للسيطرة عليه، وخصوصاً في ظل وجود مشاريع تنموية كبيرة مثل مشروع المملكة 2030، والعاصمة الجديدة في مصر، والموانئ البحرية في عدد من الدول العربية، إضافة إلى مشاريع إعادة الإعمار في الدول التي شهدت حروباً ودماراً مثل سوريا.
و يمكن اختصار أهم اهداف التنين الصيني من تعزيز علاقاته الاقتصادية مع العرب في : الفوز بمشاريع البنية التحتية، وخصوصاً في مجال البناء والطرق والجسور والموانئ البحرية. وخصوصاً بعد نجاحها في تنفيذ كثير من المشاريع الخاصة بمونديال قطر 2022، – تحسين سمعة المنتجات الصينية في المنطقة العربية، عبر ترويج فكرة “التنمية عالية الجودة” التي طرحها الرئيس الصيني في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني، والتي تعني التركيز مستقبلاً على الجودة لا على الكم، الحصول على عقود في مجال الطاقة مع عدد من الدول العربية، وترغب بكين في أن تكون هذه العقود طويلة الأجل كي لا تتأثر بالتغيرات السياسية، التوسع في مشروع الحزام والطريق، وإعطاء الدول العربية الفقيرة القروض. طبعاً القروض ليست هبات، هي قروض يجب إعادتها، لكنها غير مربوطة بشروط سياسية مثل قروض صندوق النقد الدولي.
الأسباب السعودية من تفعيل تعاونها مع الصين
أهم الأسباب التي جعلت ابن سلمان يوجه البوصلة إلى الصين يتمثل في ما تعانيه السعودية من توتر العلاقات و الاستدارة الأمريكية في التعاطي معها منذ وصول الرئيس بايدن إلى الحكم، الذي تعهد بعدم التعامل مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ونتيجة لرغبة سعودية وخليجية في تنويع الشراكات، وإدراكاً منها أن مستقبل العالم سيكون في آسيا وأن الصين هي قلب القارة الآسيوية. إضافة إلى رغبة من المملكة في تقديم نفسها على أنها المفتاح إلى المنطقة العربية، خصوصاً في ظل تراجع دور مصر، وإضعاف سوريا والعراق في الشمال. واستكمالاً لمشاريع التعاون بينها وبين الصين، ونتيجة لحاجة المملكة إلى التكنولوجيا الصينية لاستكمال خطة المملكة 2030.
تعاون عسكري مثير للجدل
في عام 2021، أوقفت الإمارات جزئياً محادثات شراء طائرات مقاتلة أمريكية بسبب المخاوف الأمريكية من أن مزود التكنولوجيا الصيني هواوي قد يكون قادرًا على سرقة الأسرار العسكرية من الطائرات الشبح F-35. انتهى الأمر بالإماراتيين بشراء طائرات صينية بدلاً من ذلك.
في عام 2021 أيضاً، تم إنهاء مشروع سري يجري بناؤه داخل ميناء تجاري إماراتي تحت الإنشاء تعمل عليه الصين وذلك بعد ضغوط أمريكية. اعتقدت وكالات المخابرات الأمريكية أن هذا الجزء المخفي من مشروع الميناء كان يستخدم للتجسس البحري. ولكن يتبقى هناك صعوبات تواجه العلاقات العسكرية الصينية – السعودية حيث ترغب السعودية في الحصول على الأسلحة الصينية المتطورة، وهو ما لا تمانع فيه بكين. لكنها تعارض طلب السعودية عدم إعطاء تلك الأسلحة لدول أخرى، وخصوصاً إيران من جهة ثانية، رغبة السعودية في توطين صناعة الأسلحة، وخصوصاً الصواريخ، فيما تريد بكين بيع تلك الأسلحة فقط من دون نقل الخبرات إلى المملكة.
تخوفات صينية من الخذلان العربي
رغم التقارب الصيني العربي لكن يبقى الحذر حاضراً حيث إن بكين تبدي حذراً شديداً من مشكلات الشرق الأوسط. فقد خذلتها الدول العربية سابقاً، فبعد تأييدها الكبير للقضية الفلسطينية، وتقديم الدعم لها، والامتناع عن إقامة علاقات دبلوماسية مع “الكيان الاسرائيلي”، لم يشترط العرب عند مشاركتهم في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 دعوة الصين إلى المشاركة كطرف دولي، مع الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي. كما رفضت الصين إقامة علاقة بالكيان الصهيوني حتى عام 1992، عندما اعترف العرب جميعاً بـ “إسرائيل” كأمر واقع و أقامت دول عربية علاقة بـ”إسرائيل” وتبادلت معها السفراء قبل بكين. و في الوقت الذي اعترف الكيان الصهيوني بجمهورية الصين الشعبية منذ عام 1950، فيما كانت الدول العربية تعترف بتايوان. لهذه الأسباب و غيرها ربما لا تكون بكين شديدة الحماس للانسياق وراء العرب و تأييدهم في القضايا الدولية.
المصدر/ الوقت