أزمة السودان… لا يمکن لملكين أن يحکما بلدًا واحدًا
رغم الدعوات الدولية لإنهاء الصراعات الدموية في السودان، تستمر حرب الشوارع في هذا البلد، وسقط مئات القتلى والجرحى حتى الآن. وتشير التقارير إلى وجود اشتباکات عنيفة في الخرطوم عاصمة السودان وفي دارفور، وهناك اشتباکات متفرقة في مناطق أخرى.
قوات الرد السريع بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف بـ “حميدتي”، اشتبكت مع قوات الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس العسكري. وإلى جانب الصراع البري والجوي، امتد الصراع بين الطرفين في السودان إلى البحر، ويحاول الطرفان المتورطان في السودان الهيمنة على المطارات والإذاعة والتلفزيون والقصر الرئاسي وغيرها من المراكز الحساسة.
لكن في غضون ذلك، فإن شعب السودان هو الذي يتضرر جراء الصراع العسكري بين الجيش وقوات الرد السريع. وكلا الجانبين يتهم بعضهما البعض ببدء الصراع، وليسا مستعدين للتراجع عن مواقفهما.
جذور الخلاف بين حميدتي والبرهان
إن سبب تحول الأصدقاء السابقين إلى أعداء الآن، يعود إلی أحکام الاتفاقات الموقعة بين القادة السودانيين.
في كانون الأول(ديسمبر) 2022، وقع البرهان وحميدتي اتفاقًا مع قادة مدنيين لإنهاء الأزمة، أعلن الجيش بموجبه انسحابه من السياسة وتسليم السلطة للمدنيين. لكن منذ البداية، كان هناك الكثير من الشكوك حول القضايا الأمنية لهذه الاتفاقية، والتي فتحت الطريق أمام صراعات مستقبلية.
وتقول مصادر أمنية إن الجيش وقوات الرد السريع رفعوا مستوى التأهب منذ شهرين، بالتزامن مع الخلافات حول دمج قوات الرد السريع في الجيش والاشتباكات بين قادة الجانبين، وقد أرسلوا قوات ومعدات من مناطق أخرى إلى الخرطوم.
لقد تأخر نقل السلطة إلى المدنيين عدة مرات. وسبب هذه التأخيرات هو قضية لم تحل بين الجيش والميليشيات التي تخشى انتقال السلطة.
الخلاف بين الجيش وقوات الدعم السريع، يدور حول الطريقة التي يجب أن تتم بها عملية دمج قوات الدعم السريع في الجيش، وتحت إدارة أي حزب وفي غضون أي مدة. يصر الجيش والناشطون المدنيون على دمج قوات الرد السريع في الجيش، لكن هذه القضية عارضها دقلو.
كان من المفترض أن يتم التوقيع على وثيقة تشكيل الحكومة الانتقالية الجديدة قبل أسبوعين بين الجماعات العسكرية والمدنية، لكن توقيع الوثيقة تأخر بسبب الخلافات المتبقية مع قوات الدعم السريع.
إن اندماج المليشيات في الجيش والتعامل مع جرائم الجنود والميليشيات، من الخلافات التي لا يتحملها حميدتي وقواته. لأن ميليشيات الرد السريع لعبت دوراً بارزاً في قتل الناس في دارفور والقمع الدموي للمتظاهرين في 2019، وإذا تم دمجهم في الجيش ونقل السلطة إلى المدنيين، فيجب التعامل مع جرائمهم وربما محاكمتهم أمام محكمة عسكرية.
ولهذا، تحاول قوات الرد السريع منع اندماجها في الجيش، من خلال خلق أزمة وإنقاذ نفسها من المحاكمة والقضايا الجنائية.
كان حميدتي والبرهان حليفين حتى العام الماضي، لكن بعد توقيع الاتفاقات السياسية قبل أربعة أشهر، اختلف كل منهما مع الآخر واشتد الصراع على السلطة بين الجنرالين. لكن في الفترة التي أعقبت الانقلاب، كان هناك خلافات طفيفة بين الرجلين، ووصف حميدتي لاحقًا الانقلاب بالخطأ الذي أدى إلى إعادة تنشيط فلول نظام البشير.
دفاعًا عن أفعاله، ذكر البرهان أنه كان من الضروري اتخاذ إجراءات لمزيد من مشاركة الجماعات السياسية في إدارة الفترة الانتقالية. حميدتي والبرهان، اللذان قادا الانقلاب على عمر البشير، يعتبران نفسيهما أكثر استحقاقاً للجلوس على الرئاسة من غيرهما، وغير مستعدين لتسليم السلطة للمدنيين. لذلك، حتى لا يتم حل الغموض الأمني في اتفاقيات قادة السودان، لا يمكننا تصور منظور إيجابي لإنهاء التوترات في هذا البلد.
من هو حميدتي؟
حميدتي، الذي يتطلع الآن إلی السلطة في السودان ويعتبر من أكثر الشخصيات نفوذاً في هذا البلد، نُشر العديد من القصص حول حياته الشخصية هذه الأيام.
حسب التحليل الذي نشره مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، ارتقى حميدتي إلى مستوى نفوذه الحالي من خلال بناء “إمبراطورية مالية وعسكرية”، الأمر الذي دفعه إلى تبديل ولاءاته السياسية والوقوف إلى جانب الثورة السودانية في عام 2019، وضمن هذا الإجراء تأثيره السياسي الكبير في المعادلات بعد الثورة.
وبناءً علی هذا التحليل، فإن التوازنات السياسية جعلت حميدتي نائباً لمجلس الحكم، وجری الحديث عن اندماج قوات الرد السريع في القوات المسلحة. وحسب محمد سعد، مساعد حميدتي السابق، فقد حمل حميدتي السلاح لأول مرة في غرب دارفور، بعد الهجوم على قافلته التجارية والذي أدى إلى مقتل حوالي 60 من أفراد عائلته ونهب جماله.
في عام 2003، عندما اندلعت الحرب في دارفور، انضم حميدتي إلى الجنجويد (مليشيات عربية في منطقة دارفور بغرب السودان)، وارتكبت هذه الميليشيات بعد ذلك جرائم حرب بحق سكان هذه المحافظة من غير الناطقين بالعربية، واتهمت الوحدة التي يقودها حميدتي بارتكاب جرائم من بينها الاغتصاب والقتل الجماعي.
لكن الضابط المحلي السابق في جهاز المخابرات بدارفور، يؤكد أن هدف حميدتي الرئيسي كان الاستحواذ على العقارات وتسهيل التجارة مع الأطراف المتصارعة.
قام عمر البشير، الزعيم السوداني المخلوع، بترقية حميدتي إلى رتبة عسكرية دون حتى يوم واحد من التدريب والخلفية العسكرية. بينما، على عكس ما يعتقده كثير من الناس، تمرد حميدتي على رئيسه في نفس الوقت الذي بدأت فيه المظاهرات المناهضة للحكومة، وأعلن علانيةً أن قواته لن تطلق النار على المتظاهرين، وأن على الحكومة أن تأخذ في الاعتبار استياء المواطنين.
وبصفته نائبًا لمجلس الحكم الانتقالي في السودان، تولى تاجر الجمال السابق بعض أهم المناصب الوزارية في السودان بعد الإطاحة بالبشير، بما في ذلك الاقتصاد المنهار ومحادثات السلام مع الجماعات المتمردة.
في السنوات الأربع الماضية، حاول حميدتي تقديم صورة ديمقراطية عن نفسه، وحسب بعض الخبراء، يحاول حميدتي أن يكون فردًا قويًا في هيكل السلطة في بلد احتكرت فيه نخبة الخرطوم السلطة لفترة طويلة، وهو يتحدث عن إقامة ديمقراطية حقيقية في البلاد.
وبما أن حميدتي كان رجل أعمال، كشفت بعض المصادر أن عائلة حميدتي تمتلك شركةً في السودان، قامت بتهريب سبائك ذهب بملايين الدولارات إلى الإمارات. وانتشرت حتى أنباء عن استخدام وجود قوات الرد السريع بقيادة حميدتي في حرب اليمن، والتي كانت تقاتل إلى جانب المرتزقة الإماراتيين والسعوديين ضد أنصار الله.
كان للسودان أكبر عدد من المرتزقة في حرب اليمن، ومن المحتمل أن تكون معظم هذه القوات من قوات حميدتي التي قاتلت من أجل المال. لذلك، اليوم حسب الصورة التي يرسمها الإعلام الإماراتي والسعودي عن حميدتي، فإنه رجل مع الثوار وليس ضدهم، ورجل يخاطب العالم باسم السودان الجديد.
وعلى الرغم من أن السعودية والإمارات لم تدعما رسميًا أيًا من طرفي النزاع في السودان ودعتا إلى ضبط النفس، لكن كما تظهر الأدلة، يعتبر السعوديون وأبو ظبي أن حميدتي أكثر انسجامًا مع أهدافهم ومصالحهم في السودان.
كما أن حميدتي يتمتع بعلاقات جيدة مع الكيان الصهيوني وهو من مؤيدي إقامة علاقات مع هذا الكيان، رغم أنه قال سابقًا إن العلاقات مع تل أبيب لا تعني التطبيع، لكنه يرى أنه من الضروري إقامة علاقات مع الكيان من أجل شطب السودان من قائمة الإرهاب الأمريكية. لذلك، مثل البرهان، تربط حميدتي علاقات ودية مع الصهاينة.
قوات الرد السريع
القوة التي اكتسبها حمدان دقلو لنفسه الآن، مستمدة من قوات الميليشيات التابعة له والتي ساعدته في الوصول إلى هذا الموقع في العقدين الماضيين.
أنشأ حميدتي قوات الرد السريع بالاعتماد على الميليشيات المنخرطة في حرب دموية في منطقة دارفور. في عام 2013، تمت إعادة تسمية الجنجويد بـ “قوات الرد السريع”، ومع دخول حميدتي إلى الرتب العليا في الجيش، اكتسبت هذه الميليشيات المزيد من القوة.
وعلى الرغم من عدم وجود معلومات دقيقة حول قوات الرد السريع، فقد قدرت بعض المصادر عدد هذه القوات بـ 100 ألف. ومعداتها عبارة عن سيارات الدفع الرباعي بأسلحة مختلفة، بما في ذلك أنظمة مضادة للطائرات والمدفعية، وعدد مركباتها 10 آلاف. وتسهل هذه المركبات الخفيفة حركة قوات الرد السريع، وخاصةً في النزاعات داخل المدن.
إذا كان الجيش السوداني يعتمد على التمويل الحكومي، فإن قوات الرد السريع لديها مناجم ذهب تحت تصرفها، ما يوفر لها ثروةً هائلةً. كما شاركت هذه القوات في أنشطة أخرى في السنوات الماضية، بما في ذلك التجارة، وقدمت نفس الدعم المالي لأنشطتها العسكرية.
لا شك أن الصراع على السلطة بين الجنرالات السودانيين ليس فقط لا يجلب الأمن لهذا البلد، بل مع استمرار الخلافات سيشعل نار الحرب الأهلية. لذلك، طالما أن السلطة في يد الجيش ولم يتم تنفيذ الفترة الانتقالية، فإن الاستقرار في هذا البلد سيكون حلماً بعيد المنال.
المصدر/ الوقت