بداية مريرة لإعلان وقف إطلاق النار بالنسبة لتل أبيب… نتنياهو يرضخ أخيراً
بعد أيام من الإشارات الإيجابية من المصادر الأمريكية حول انفراج في مفاوضات وقف إطلاق النار في لبنان، اكتست هذه الأنباء ثوب الحقيقة مساء الثلاثاء، حين أكد بنيامين نتنياهو في تصريحاته موافقة المجلس الوزاري الأمني للکيان على اتفاق وقف إطلاق النار مع لبنان.
تجنب نتنياهو الإشارة إلى نتائج العملية العسكرية التي استمرت 52 يومًا في لبنان، ومدى تحقيق أهداف هذا الکيان في حربه مع حزب الله، محاولاً إخفاء فشله في تحقيق إنجازات ميدانية برسم أهداف جديدة، وعزا أسباب قبول وقف إطلاق النار إلى “التركيز على التهديد الإيراني، وإعادة بناء الجيش، وهزيمة حركة المقاومة الإسلامية في غزة، وفصل الساحات العسكرية (الجبهات المختلفة لمحور المقاومة ضد الأراضي المحتلة)”.
اعترف هذا المجرم الملاحق من قبل المحكمة الجنائية الدولية ضمنيًا بعجزه عن إعادة السكان النازحين في شمال الأراضي المحتلة إلى منازلهم، مكررًا وعوده غير المنفذة، وخاطب النازحين والرأي العام الساخط في الأراضي المحتلة قائلاً: “لقد قلت مرارًا إن الاتفاق الجيد هو الذي يمكن تنفيذه، ونحن سننفذه وسنعيد سكان الشمال”.
ومع ذلك، لم يوضح ما إذا كان قد نجح في إدراج الضمانات الأمنية اللازمة التي وعد بها سابقًا في نص اتفاقية وقف إطلاق النار أم لا، كما لم يوضح كيف سيضمن مجلس الوزراء الحربي تحت قيادته أمن المدن الشمالية لعودة النازحين، دون القضاء على القدرات العسكرية لحزب الله في الحرب، وفي ظل القصف الصاروخي اليومي لجميع مناطق الأراضي المحتلة.
بيان مشترك لبايدن وماكرون
أدلى الرئيس الأمريكي بتصريح رسمي يوم الثلاثاء، مؤكداً على الاتفاق التاريخي لوقف إطلاق النار بين حزب الله والكيان الإسرائيلي، وقد وصف هذا التطور بأنه “نبأ جيد”.
وفي كلمة ألقاها من المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض، عقب إعلان موافقة المجلس الوزاري الأمني الإسرائيلي على بنود الاتفاق، أوضح بايدن أن وقف إطلاق النار سيدخل حيز التنفيذ في تمام الساعة الرابعة صباحاً بالتوقيت المحلي (الثانية بتوقيت غرينتش) من يوم الأربعاء.
وفي إطار التنسيق الدولي رفيع المستوى، أصدر بايدن بياناً مشتركاً مع نظيره الفرنسي، إيمانويل ماكرون، أكدا فيه أن اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان يرسي الأسس الجوهرية لاستعادة الاستقرار في المنطقة.
وشدد البيان المشترك على أن إعلان اتفاق وقف إطلاق النار، من خلال وضع حد للأعمال العدائية، يوفّر درعاً واقياً لـ “إسرائيل” في مواجهة التحديات الأمنية التي يمثّلها حزب الله.
ترحيب الحكومة اللبنانية وتحفظ حزب الله
في بيان رسمي صادر عن رئيس الوزراء اللبناني، نجيب ميقاتي، تم الإفصاح عن استقباله الإيجابي المشوب بالحذر للاتفاق المبرم بوساطة أمريكية لوقف الأعمال العدائية، وقد جاء ذلك في أعقاب محادثة هاتفية له مع الرئيس الأمريكي.
وفي تصريح لاحق، أكد ميقاتي أن إعلان الهدنة بين حزب الله والكيان الصهيوني، يمثّل “منعطفاً محورياً نحو إرساء دعائم الاستقرار والهدوء في لبنان”، وأضاف: “لقد أجريت دراسةً متأنيةً ومستفيضةً لهذا التفاهم الذي يرسم خارطة طريق للهدنة، واعتبره خطوةً جوهريةً نحو بسط الأمن والاستقرار في أرجاء الوطن، فضلاً عن تيسير عودة المهجرين إلى قراهم ومدنهم بكرامة وأمان”.
وجدّد رئيس الوزراء اللبناني التزام حكومته الراسخ بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 1701 بحذافيره، وتعزيز الانتشار العسكري في الجنوب، والتنسيق الوثيق مع قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل).
في المقابل، أبدى السيد محمود قماطي، نائب رئيس المجلس السياسي لحزب الله، في أول رد فعل على تصريحات نتنياهو بشأن الموافقة على اتفاق وقف إطلاق النار، تشككاً عميقاً في مصداقية التزام نتنياهو، معرباً عن تطلعه إلى تنفيذ الاتفاق وفقاً لما تم التوافق عليه، مع مراعاة المصالح اللبنانية العليا.
وأشار قماطي إلى أن بعض البنود المتداولة في وسائل الإعلام الإسرائيلية حول هذا الاتفاق تفتقر إلى الدقة، بل تشكّل خرقاً سافراً للسيادة اللبنانية، وأردف قائلاً إنه من الضروري إجراء مراجعة دقيقة وشاملة للنقاط التي أبدى نتنياهو موافقته عليها، وذلك قبل أن تضع الحكومة اللبنانية توقيعها على الوثيقة يوم الأربعاء.
وأضاف قماطي إنه “من المرفوض قطعاً، ومن غير المقبول على الإطلاق، أن يُمنح جيش الكيان الصهيوني أي هامش للمناورة أو حرية التحرك، سواء على امتداد حدودنا السيادية أو داخل أراضينا”، واختتم تصريحاته قائلاً: “لقد خضنا غمار هذه المفاوضات من موقع القوة والعزة والكرامة، مستندين إلى الصمود الأسطوري الذي أبداه لبنان، أرضاً وشعباً ومقاومةً، في مواجهة الآلة العسكرية الصهيونية الغاشمة”.
ومن الجدير بالذكر، في سياق تحليل تطورات الأحداث، أن الكيان الصهيوني قد شرع في عدوانه البري الغادر على الأراضي اللبنانية منذ الثالث من تشرين الأول/أكتوبر المنصرم، ووفقاً للإحصاءات الرسمية الصادرة عن الجهات المختصة في الدولة اللبنانية، فقد أسفرت الاعتداءات الصهيونية الهمجية عن استشهاد ما يناهز 3800 مواطن لبناني، وإصابة ما يربو على 15000 آخرين بجروح متفاوتة الخطورة، من بينهم عدد كبير من الأطفال والنساء الأبرياء الذين سقطوا ضحايا لهذا العدوان الغاشم، علاوةً على ذلك، تسببت هذه الاعتداءات السافرة في تهجير قسري لما يقارب 1.4 مليون مواطن لبناني من ديارهم وأراضيهم.
ما هو مضمون الاتفاق؟
أوردت قناة الجزيرة، نقلاً عن الموقع الإلكتروني الإسرائيلي “حدشوت إسرائيل”، تفاصيل الاتفاق المبرم بين تل أبيب وبيروت على النحو الآتي:
• يمتنع حزب الله وكل التنظيمات المسلحة المتواجدة على الأراضي اللبنانية، عن القيام بأي أعمال عدائية تجاه “إسرائيل”.
• بالمقابل، تلتزم “إسرائيل” بعدم شن أي هجمات عسكرية ضد لبنان، سواء أكانت برية أم جوية أم بحرية.
• يقر الطرفان، الإسرائيلي واللبناني، بأهمية القرار رقم 1701 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.
• لا تنتقص هذه الالتزامات من حق “إسرائيل” أو لبنان في ممارسة حقهما الطبيعي في الدفاع عن النفس.
• تنحصر صلاحية حمل السلاح وتنفيذ العمليات في جنوب لبنان بالقوات الأمنية والعسكرية اللبنانية الرسمية دون سواها.
• يخضع أي بيع أو توريد أو تصنيع للأسلحة أو المواد ذات الصلة في لبنان، لإشراف الحكومة اللبنانية ورقابتها الصارمة.
• يتم تفكيك جميع المنشآت غير المرخصة المرتبطة بإنتاج الأسلحة والمواد ذات الصلة.
• يجري تفكيك كل البنى التحتية والمواقع العسكرية، ومصادرة جميع الأسلحة غير المرخصة التي لا تمتثل لهذه الالتزامات.
• يتم تشكيل لجنة تحظى بموافقة “إسرائيل” ولبنان للإشراف على تنفيذ هذه الالتزامات، وتقديم المساعدة اللازمة في هذا الصدد.
• تلتزم كل من “إسرائيل” ولبنان بإحاطة اللجنة وقوات اليونيفيل علماً بأي خرق محتمل لتعهداتهما.
• يتعهد لبنان بنشر قواته الأمنية الرسمية وقواته العسكرية على امتداد حدوده كافةً، وعند المعابر، وعلى طول الخط المحدد للمنطقة الحدودية الجنوبية.
• تتعهد “إسرائيل” بسحب قواتها تدريجياً إلى جنوب الخط الأزرق، خلال فترة زمنية لا تتجاوز الستين يوماً.
• تبذل الولايات المتحدة الأمريكية مساعيها الحثيثة لتعزيز المفاوضات غير المباشرة بين “إسرائيل” ولبنان، بغية التوصل إلى ترسيم حدود برية معترف بها من قبل الطرفين.
مواطن الضعف في التوافق في ردود الفعل الصهيونية
في خضم محاولات نتنياهو الحثيثة خلال خطابه لتأكيد احتفاظ الكيان الصهيوني بزمام المبادرة ضد لبنان، تبرز بوضوح الردود الأولية من أركان حكومته ومعارضيه على حد سواء، مؤكدةً بجلاء إقرار “إسرائيل” بالهزيمة الواقعة.
لم يتوارَ إيتمار بن غفير، وزير الأمن القومي الإسرائيلي والمعروف بنزعته المتطرفة، عن إبداء معارضته الصريحة للإعلان عن وقف إطلاق النار. وفي تصريح لافت، شبّه الاتفاق مع لبنان بالكتابة على الجليد، مشيراً إلى عودة حزب الله المحتومة بكامل عتاده العسكري.
ونقلت هيئة البث الإسرائيلية عن ابن غفير قوله إن الحرب في لبنان “لا ينبغي أن تضع أوزارها إلا بهزيمة إسرائيل للطرف المقابل”، وهو إقرار ضمني بتفوق حزب الله في هذه المواجهة.
وكشفت وسائل الإعلام الصهيونية النقاب عن لجوء نتنياهو إلى تمرير هذا الاتفاق عبر المجلس الوزاري الأمني المصغر، متجنباً عرضه على مجلس الوزراء بكامل هيئته، ويُعزى هذا التصرف إلى إدراكه العميق للمعارضة الشديدة المتوقعة من أعضاء الحكومة، الذين يرون في الاتفاق إقراراً صريحاً بالهزيمة. وعليه، يتجلى أن قبول الاتفاق قد انفرد به نتنياهو دون سواه، في خطوة تعكس عمق الأزمة التي يواجهها الكيان الصهيوني.
وفي تغريدة وجيزة ذات دلالة عميقة، عبّر أفيغدور ليبرمان – أحد أبرز رموز التيار اليميني في المشهد السياسي الصهيوني – عن موقفه الناقد قائلاً: “تشدّق نتنياهو بالحديث عن نصر حاسم ومطلق، بيد أنه أغفل تحديد هوية المنتصر، إن وقف إطلاق النار ليس سوى رضوخ تام لإرادة حزب الله”.
وفي سياق متصل، كشفت هيئة البث في الكيان الصهيوني، استناداً إلى تصريحات صادرة عن نخبة من كبار المسؤولين في الدوائر السياسية والأمنية، عن مكامن الخلل الجوهرية التي تعتري هذا الاتفاق، والتي تتجلى في النقاط الآتية:
• انعدام وجود منطقة عازلة تكفل إبعاد العناصر اللبنانية عن خط التماس.
• غياب تفويض صريح يخوّل “إسرائيل” شنّ عمليات عسكرية ضد لبنان في حال وقوع أي خرق للاتفاق.
• قصور الاتفاق عن تقديم ضمانات كافية لتقويض البنية الاقتصادية لحزب الله.
• حصر مسؤولية تنفيذ بنود الاتفاق في جنوب لبنان، بالجيش اللبناني وقوات اليونيفيل دون سواهما.
وفي خضم الأزمة المتصاعدة، برز موقف بني غانتس، العضو السابق في المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية، كصوت معارض بارز لنهج نتنياهو المتشدد في رفض التفاوض مع حركة حماس لتحرير الأسرى الصهاينة في غزة. وفي تصريح يحمل دلالات عميقة، نأى غانتس بنفسه عن ادعاءات رئيس الوزراء حول تحقيق أهداف الحملة العسكرية في لبنان.
وبنبرة تنمّ عن قلق استراتيجي عميق، شدّد غانتس على استحالة الحديث عن هدنة عابرة في الساحة اللبنانية، محذراً من أن الانسحاب المتسرع للقوات الإسرائيلية في هذه المرحلة الحرجة، سيضع الكيان الصهيوني في مأزق استراتيجي خطير، ويمهّد الطريق أمام حزب الله لإعادة تنظيم صفوفه وتعزيز قدراته بسهولة ملحوظة.
وفي تحذير صارم يعكس عمق الأزمة، أطلق غانتس صيحة تنبيه قائلاً: “يتحتم علينا تجنب أي تصرف متهور، أو تفويت فرصة ثمينة لإبرام اتفاق راسخ من شأنه إحداث تحول جذري في المشهد الاستراتيجي على الجبهة الشمالية”.
في السياق ذاته، قدم يائير لابيد، زعيم المعارضة، نقداً لاذعاً، واصفاً قبول اتفاق وقف إطلاق النار بأنه خطوة متأخرة بشكل مؤسف، مشيراً إلى أن التوصل لاتفاق مع لبنان كان الخيار الأمثل والأكثر جدوى قبل عشرة أشهر.
وفيما يخص قضية الأسرى في غزة، أكد لابيد أن ما سيفضي إلى تحريرهم، هو اتفاق كان في الإمكان إبرامه في شهري أبريل أو يوليو الماضيين، في إشارة ضمنية إلى فرص ضائعة وسوء تقدير استراتيجي من قبل الحكومة الحالية.
المصدر / الوقت